د. هاني الضمور*
تحت أصوات القذائف ونبض الرصاص، يكبر أطفال غزة كل يوم على أمل النجاة وإصرار العيش وسط غبار الحرب وضجيج الدمار. هناك، حيث الأرض مُثخنة بالجراح، وحيث القلوب تخفق بين الخوف والشجاعة، يتعلم الأطفال أبسط حقوق الحياة في أقسى مدارس الموت. غزة، تلك البقعة الصغيرة المحاصرة، أنجبت جيلاً لم يعرف الطفولة كما عرفناها، بل عرفها على إيقاع قسوة لا ترحم.
في شوارع غزة وأزقتها، تجد الأطفال يلعبون بين الركام، يجمعون بقايا بيوتهم المحطمة وكأنهم يعيدون بناء أحلامهم المحطمة، يصنعون من الحجارة ألعابهم، يبتسمون رغم الخوف، ويبحثون عن الفرح وسط الدمار. لم يعرفوا طعم الأمان كما يعرفه أطفال العالم، ولم يهنأوا بالمدارس الآمنة أو الحدائق الخضراء. هؤلاء الصغار، الذين يتعلمون أسماء القذائف وأنواع الطائرات قبل أن يتعلموا أسماء الزهور وألوانها، يواجهون واقعاً قاتماً لكنهم يستمدون من رماده ألوان البقاء.
صمود لا يقاس بالأعمار
قد يبدو من الصعب تصديق أن هؤلاء الأطفال، الذين لم تتجاوز أعمارهم بضع سنوات، قد اكتسبوا من التجارب ما يعجز الكبار عن تحمله. تراهم يعرفون كيف يحتمون من القصف، يتحدثون عن النزوح وكأنه عادة يومية، ينامون تحت أصوات الانفجارات ويستيقظون على أنقاض أحلامهم الصغيرة. لقد زرعت الحرب فيهم قسوة الحياة، وأعطتهم دروساً في الصبر والجَلَد، حتى باتت عيونهم تحكي قصة شعب بأسره.
هؤلاء الأطفال، بملامحهم الصغيرة وأرواحهم العظيمة، يتحدون أهوال القصف والجوع، يحولون شظايا المعاناة إلى دروس في الصمود، يكبرون حاملين قضاياهم على أكتافهم، ويمضون وكأن الحياة لم تمنحهم سوى خيار واحد: المقاومة.
استثمار في الكرامة
ما أروع من أن نستثمر في هؤلاء الأطفال. لا في المال، بل في كرامتهم، في مبادئهم وأحلامهم الصغيرة. قد يكون من السهل أن نقدم لهم لقمة أو مأوى، لكن أعظم ما يحتاجونه هو الشعور بإنسانيتهم وكرامتهم التي تظل صامدة رغم محاولات القهر والذل. هم أجيال المقاومة، ليس فقط مقاومة العدو، بل مقاومة اليأس، الجوع، والموت البطيء.
إننا إن أردنا يوماً أن نتعلم من هؤلاء الأطفال، فعلينا أن نتعلم كيف نحيا رغم الألم، كيف نبني الأحلام من رماد المنازل، وكيف نحول الدموع إلى قوة تتحدى كل ظلم.
رسالة للعالم
أطفال غزة هم رسالة للعالم بأن العزيمة لا يُطفئها الألم، وأن الكرامة لا تنكسر أمام مدافع الحرب. هم أبطالٌ لم يختاروا الحرب، لكنهم يقفون في وجهها بصدور عارية، وأرواح تملؤها الحياة رغم الموت. ستظل غزة تُنجب أطفالاً يشبهون الأرض التي وُلدوا عليها، صلبة، لا تُكسر، تحمل في قلبها أملاً لا يشيخ، وقصة لا تنتهي.
*كاتب اردني
شاهد أيضاً
الخريف الثاني..!
محمد يعقوبي* التمردات المسلحة داخل الأوطان عبر التاريخ، لا تجلب الا الخراب والدمار والمزيد من …