د. كمال ميرزا*
بعد أكثر من قرن من الزمان، لم يعد الأمر يحتاج إلى “بلفور” و”وعده” و”حكومة جلالة الملكة” من أجل إقامة “وطن قوميّ” لليهود في فلسطين..
ومن أجل دقّ إسفين يقطع التواصل الجغرافيّ بين شطريّ الوطن العربيّ والإسلاميّ، ويحول دون وحدة العرب والمسلمين بعد أن تم التآمر على دولة خلافتهم الواحدة، وتصفيتها نهائيّاً للمرّة الأولى منذ تاريخ قيامها..
ومن أجل إقامة قاعدة متقدّمة للمشروع الرأسماليّ الإمبرياليّ الصهيونيّ في المنطقة تكون حارسةً لمصالحه ونهبه الممنهج لمواردها، ورأس حربة تحت الطلب لتدمير وتأديب كلّ جماعة بشرية أو دولة تاريخيّة أو أو قيادة كارزماتيّة تفكّر في شقّ عصا الطاعة الغربيّة..
ومن أجل زعزعة أمن المنطقة واستقرارها، ومنع أي تنمية وازدهار حقيقيّين فيها، وتبوّئها المكانة المركزيّة التي تستحقها ضمن المنظومة العالميّة بما يتناسب مع إرثها الثقافي، وطاقاتها البشريّة، وموقعها الجيو ـ بولتيكي الأهم، والثروات الطبيعيّة التي اختصّها الله عزّ وجلّ بها..
لم يعد جميع ما تقدّم يستدعي بلفور ووعده، فالأنظمة العربيّة تقوم بهذه المهمّة بكل تفانٍ وإخلاص وعلى أتمّ وجه ممكن!
هذه الأنظمة المُصنّعة التي تمّ تنصيبها على كيانات وظيفيّة استحدثها الاستعمار ورسم حدودها (كما استحدث إسرائيل)، ونتيجةً لعقود وعقود من الغزو والمسخ الثقافيّين، والتغريب، والعلمنة، والتبعيّة القسريّة ومن ثم الطوعية، وإذكاء الروح الُقطريّة والطائفيّة والفصائليّة والجهويّة، والتطبيع السريّ ثم المُعلن.. هذه الأنظمة هي من حيث نهبها لمقدّرات وثروات شعوبها، وبيعها بأثمان بخسة للآخر، ووضعها تحت تصرفه مقابل فتاتٍ وسمسراتٍ وشرعيّةٍ مزيّفةٍ، هي أشدّ جشعاً من الرأسماليّة نفسها!
وهي من حيث قمعها لشعوبها، وتنكيلها بها، وتضييق الخناق عليها، وابتزازها في تفاصيل حياتها ولقمة عيشها، هي أكثر بطشاً من الإمبرياليّة نفسها!
وهي من حيث غطرستها وعنجهيّتها وفوقيّتها وطبقيّتها، واستخفافها بالجموع البشريّة التي تحكمها، والاستهانة بها حدّ احتقارها، والنظر إليها كـ “مادة استعماليّة” يتم توظيفها وتسخيرها وتكييشها أو حتى التخلّص منها عند الضرورة.. هي أشدّ عنصريّةً من الصهيونيّة نفسها!
أمّا بالنسبة للكيان الصهيونيّ نفسه، ففي عهدة هذه الأنظمة العربيّة هو في أيدٍ أمينة وحريصة ومتفانية أكثر حتى من مؤسسيه ورعاته وداعميه الغربيّين!
وإذا كانت حكومة جلالة الملكة قد نظرت “بعين العطف” إلى اليهود حين قطعت على نفسها وعد “بلفور” وقرّرت أن تمنحهم “وطناً قوميّاً” في فلسطين، فإنّ هذه الأنظمة العربيّة تنظر إلى الكيان الصهيونيّ بعين الوله والافتتان والتأليه وكأنّ آلهتهم الأثيرة على قلوبهم “هُبل” أو “اللات” أو “العُزّى” قد بُعثت من جديد!
ويكاد المرء أن يقول أنّ مسمّى “وعد بلفور” يجب تغييره ليصبح وعد “عدنان” أو “قحطان”، لولا أنّ الإنصاف والعقل والتدبّر تجعله يدرك أنّ هذا السلوك المنسحق تجاه الآخر، وهذه العمالة الطوعيّة، وهذا الحقد الحضاريّ على أهل الحواضر والأمصار.. هو ليس سلوك عرب أصيلين أقحاح، هيهات، بل هو سلوك أعراب هم “أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألّا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله”..
وهو سلوك أعراب ما زالت تحرّكهم حميّة “الجاهليّة الأولى” وعصبيّاتها وأحقادها..
وهو سلوك أعراب ما زالوا يستمرئون سلوك الغزو والسلب والنهب وقطع الطريق والاستقواء على الضعيف بتشكيلات عصريّة، ويحاولون تمويه ذلك من خلال تصويره زوراً وبهتاناً كضرب من الرجولة والفروسيّة والشجاعة والولاء والانتماء!
وهو سلوك أعراب يتطاولون في البنيان بشكل وسواسيّ قهريّ لينسوا أنّهم حفاة عراة ما يزال الجوع البنيويّ ينخرهم ويستحكم منهم، حتى لو انتعلوا أفخر النعال، ولبسوا أفخم الثياب، وتطيّبوا بأنفس العطور، وامتطوا أغلى السيّارات!
ولكن ما يواسي النفس، وبعد حوالي 400 يوم من انطلاق معركة “طوفان الأقصى” المباركة، أنّه مقابل وعد “بلفور” و”الأعراب”.. هناك “وعد الآخِرة” الذي جعله الله تعالى بشرى لعباده المُخلَصين، وأودعه وديعةً باقيةً عبر الزمان لا تفنى بطول الأمل وتطاول الأمد في “بيت المقدس” وأكناف بيت المقدس!
*كاتب اردني
شاهد أيضاً
كشف المستور في كتاب الحرب المنشور!
محمد عزت الشريف* لم يكن طوفان الأقصى محضَ صَولةٍ جهادية على طريق تحرير الأقصى وكامل …