محمد باهي*
يلاحظ المتتبعون أن الوتيرة المتسارعة والمدهشة لذاكرة الزمن العالمي، والتغيرات التي تطرأ على أكثر من صعيد ،والتفاعل الآني للإنسان على مستوى الكون برمته، مع مايجري من أحداث ووقائع ،ومع ما يتمخض عن ذلك من تمظهرات وتجليات مكشوفة ،وما يتبدى من تفاصيل يتم التقاطها بانسيابية متيسرة وفي المتناول ،هذه المنظومة بكل مكوناتها وفي علاقتها بالتطور التكنلوجي ،تفضي إلى كون الخطاب الذي كان مستهلكا على خلفية ولوج العالم إلى زمن العولمة وسياقاته التاريخية ،ودوافعه الجيوسياسية والسوسيواقتصادية ،فضلا عن التوجهات الليبرالية واستراتيجياتها المتحكمة في اقتصاديات العالم، والأسس الثقافية والمعرفية ،هذه الاستنتاجات ربما كلها قد أضحت في ذمة التاريخ، بعد استيفاء زمن العولمة لأبعاده وأهدافه ومراميه على جميع المستويات ،وبعد التنميط القسري لسياسات الحكومات الخاضعة لتوجهات الدول والأنظمة المتحكمة في اقتصاديات العالم .
وفي ظل هذا التيه الهوياتي، ودون استحضار لقطيعة مفترضة بين المرحلة السابقة ومايشهده العالم في الظرف الراهن، واعتبارا لكون مانلمسه حاليا من تغيرات وتطورات لايمكن الفصل بينها وبين الإرث التاريخي وأنقاضه الراسخة، تتبدى تساؤلات منطقية ووجيهة مفادها: هل العالم انتقل من زمن العولمة إلى مرحلة قد يصطلح عليها “بالتوحش” ؟
فحسب المتداول في القواميس الجيوسياسية والنقاشات الفكرية والثقافية ،لم يعد لمصطلح العولمة حيز ضمن منظومة الخطابات السائدة التداول ، الأمر الذي يحيلنا إلى كونها مرحلة تاريخية قد استوفت أبعادها الزمنية ،وحققت غاياتها ومنهجيتها وقدراتها التدبيرية على أكثر من صعيد ،وبالتالي لم يعد لاستحضارها أية جدوى بعدما حققت أدوارها على المستوى الكوني برمته .
وبالرجوع إلى الوضع الراهني ،نلحظ أن العالم انتقل إلى مرحلة جديدة تفوح من بين ثناياها رائحة “التوحش” بأبشع تمظهراته ، حيث طفت إلى الوجود بعد جائحة كوفيد ،أشكال عدوانية وأساليب للعنف داخل المجتمعات البشرية بشكل رهيب وغير مسبوق ،وذلك انطلاقا من داخل الأسر ،ومرورا بالأهالي ،لتعم الدول ومختلف مناطق المعمور ،إذ لم تقتصر تلك الظواهر على تجسيد للعنف اللفظي ،بل تجاوزته في أحايين كثيرة لتتمظهر على شاكلة اعتداءات تكتسي طابع الوحشية والهمجية في الشارع العام ببعض دول العالم،وغدت أكثر توحشا حين يتعلق الأمر بتجاوز وخرق للأعراف والقوانين حين تنفلت الأمور ، فتظهر تدخلات من قبيل “شرع اليد “من طرف مجموعة أشخاص لتصريف سلوكات وممارسات ،قد تفضي إلى المس بالحقوق والكرامة الإنسانية أو الهلاك أمام الملأ،واعتبرت هذه الظواهر المشينة التي يتداولها رواد تطبيقات التواصل الاجتماعي من كثير من الدول عبر العالم ،تجسيدا لقمة وفداحة “التوحش” .
وفي سياق الوثيرة المتصاعدة لمظاهر ماقد يصطلح عليه “بالتوحش” غدا العالم أكثر عدوانية نتيجة اندلاع الحروب والتقتيل والتدمير وتخريب الثروة الطبيعية ، إلى جانب ما يترتب عن ذلك من انتشار للأمراض والعلل المروعة الناجمة عن الأسلحة الفتاكة ، فضلا عن مخلفات تتمظهر على شاكلة عاهات مستديمة وإعاقات وأعطاب صحية ،إضافة إلى تشوهات خلقية لدى الأطفال حديثي الولادة .
وفي ظاهرة ذات صلة، يمكن الحديث عن حجم “التوحش” الذي أضحت تواجهه الطبيعة ببعض مناطق العالم، وذلك نتيجة الانتشار الواسع للنفايات بمختلف أشكالها، إذ تظل ذات علاقة بظاهرة الاحتباس الحراري وسوء توزيع الأمطار، وظهور كوارث طبيعية غير مسبوقة، دون تجاهل الاختلالات الأيكولوجية ومايترتب عنها من نفوق وهلاك آلاف الكائنات المائية والبرمائية.
فهل فعلا استنفدت منظومة العولمة أهدافها وغاياتها؟ أم أنها لازالت قائمة وسارية المفعول تحت مسميات متناغمة ومنسجمة مع التطورات التكنلوجية؟ أم أنها سلمت المشعل لمنظومة ما يسمى “بالتوحش “، الذي قد يجعل العالم برمته تائها وسط منظومات فكرية وثقافية، ونظريات وأنماط سلوكية مفتوحة على كل الاحتمالات؟
وإذا كان منهج “التوحش” قد لاحق جغرافيات العالم، فإن التاريخ له ذاكرة منطقية ذات منحى يروم الشفافية والصدقية، واستحضار القيم الأخلاقية والحس الإنساني، فهو بذلك يوثق التفاصيل والتحولات بمنتهى التجرد والموضوعية .
*كاتب مغربي
شاهد أيضاً
الضفة تنتظر مروان البرغوثي!
مازیار شکوری* لقد انتهت حرب عاصفة الأقصى بانتصار حركة حماس والفصائل الفلسطينية الأخرى ومحور المقاومة، …