د. احلام القباطي
قال تعالى:- (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّنْ ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) : الحجرات13 – (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) : البقرة62 تشير الآيات الكريمة إلى أهمية تفعيل العقل الإنساني واحترام التنوّع بين البشر، وهو ما بات ضرورة ملحّة في ظل الاضطرابات العالمية الراهنة. فالمتأمِّل للأحداث الحديثة، سواء في دول العالم العربي أو الغربي، يلاحظ بوضوح اقترابنا من شفا مخاطر كبرى تتطلب استنهاض منظومة القيم الإنسانية قبل الاعتبارات الدينية أو المذهبية. إذ لا يُقاس الإنسان بلونه أو عرقه أو معتقده، وإنما بعمله الصالح وسعيه لإعمار الأرض وتعزيز قيم التعايش والسلام ،إن مواجهة ظواهر التطرف والتعصب والتنمر تتطلب ابتعادًا عن النظرة الأحادية التي تجعل صاحبها يظن أنه وحده على صواب، فيما كل مَن يخالفه الرأي أو الدِّين هو على خطأ. فمن الضروري أن تكون قيم التسامح والعدل والرحمة هي بوصلتنا المشتركة، ذلك أن التعايش والسلام يُعَدّان مطلبًا إنسانيًّا وحضاريًّا ملحًّا، وركيزة أساسية في تقدم الشعوب ونمائها.
تجمع أديان العالم الكبرى – سواء الإسلام أو المسيحية أو اليهودية وغيرها – على الإيمان بإله واحد خالق لهذا الكون ومقدِّر لشؤونه. وهذا الإيمان المشترك يشكِّل نافذة أمل للتفاهم والتعاون الإنساني، ويحفِّز على بناء حوار حضاري شامل. فكل مجتمع لديه خصوصياته الثقافية والفكرية والأخلاقية، التي يمكن أن تشكِّل رافدًا للسلام والتعاون من أجل مستقبل أفضل للبشرية وتتابع القباطي حديثها ل الميثاق قائلة”من هذا المنطلق، تُعَد قيمة التسامح الديني معيارًا أساسيًّا يُعبِّر عن احترام وتقبّل الاختلافات العقائدية، وهو جوهر الأديان السماوية. فنجد الإسلام يؤصِّل لمبدأ التسامح بقوله تعالى: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) الكافرون 6، فيما تدعو المسيحية إلى المحبة حتى تجاه الأعداء بقوله : ” أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ” متّى5:44؛ لوقا6:27 غير أن بعض التيارات المتشددة تسعى إلى نشر تفسيرات قاصرة تُناقض روح التسامح التي دعت إليها الأديان جميعًا.يعود انتشار التطرف وعدم قبول الآخر في كثيرٍ من الأحيان إلى عوامل تعليمية وثقافية واجتماعية وسياسية. قيام جماعات متشددة بتأجيج العنف الديني وتوسيع فجوة التنافر بين الأديان، من خلال خطاب الكراهية وتشويه صورة المختلفين مذهبًا أو عقيدةً أو عرقًا. للأسف هناك بعض الدول الكبرى قد تجد في حالة عدم الاستقرار المستمرة مصلحةً لها، فتُبقي الدول النامية في حال من الاضطراب، بهدف مواصلة الهيمنة والسيطرة على مقدّراتها ،ومن المسلَّمات العقلية والفكرية التي نتبناها أن الدين والقيم الإنسانية متكاملان لا يفترقان؛ إذ إن رسالات الله السماوية كافة – إلى نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم السلام – تؤكِّد على قيمة العمل الصالح وإعلاء مبادئ العدل والأمانة والمساواة وحفظ حقوق البشر. فهذه المفاهيم ليست حكرًا على دينٍ دون آخر؛ بل هي محور يتفق عليه معظم شعوب الأرض.
إن أي خطابٍ أو فعلٍ يستهدف رموزًا دينية أو نصوصًا مقدّسة تحت شعار حرية التعبير من دون مراعاة للقيم الأخلاقية والقوانين الدولية، يهدد بإشعال فتنة طائفية، وتعميق الكراهية وتغذية العنف المضاد ومثال ذلك ما حدث من إساءات متكررة لمقدّسات المسلمين عبر حوادث حرق المصحف أو التطاول على شخصية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم؛ وهي ممارسات لا تعبِّر عن حرية مسؤولة، بل تغذي التطرف وتقوِّي شوكة الجماعات الإرهابية وترسخ العداء.وعلى الجانب الآخر، فإن الدعاء الدائم بالهلاك والدمار على الشعوب التي لا تعتنق الإسلام، أو تبني مواقف عدائية شاملة، يتعارض مع القيم العليا للدين الإسلامي القائمة على الرحمة والمغفرة والعدالة. فإقصاء الآخر أو رفع لواء العداء الشامل هو عقبة أمام بناء التعايش والسلام العالمي.إن الله سبحانه وتعالى ليس مسؤولًا عن أخطاء البشر ولا عن اندفاعات بعض رجال الدين أو السياسيين ممن يوظفون الخطاب الديني أو المذهبي لتحقيق مآرب شخصية أو سلطوية ،إن ما نحتاجه اليوم هو الانتماء إلى إنسانيتنا المشتركة، والعمل سويًّا لبناء عالم يقوم على الحوار والعدالة واحترام العقائد والرموز، مع الاعتراف بأن الاختلاف سُنّة كونيّة ووسيلة للإثراء والتقدّم.
إن إعلاء صوت العقل وتبني القيم الإنسانية هو السبيل لمواجهة التطرف بجميع أشكاله، سواء كان مصدره جماعات متشددة أو خطابات عدائية تنتهك حرمة الأديان. وبذلك، نضع أقدامنا على طريق السلام العالمي الذي يلبي آمال الأجيال القادمة في مستقبلٍ تسوده الرحمة والتآلف واحترام الكرامة الإنسانية ، لن يكون هناك سلام عالمي ما لم ينصف المظلوم ويكبح جماح الظالم، وما غزة إلا تذكير صارخ بهذه الحقيقة التي ظلمت بسبب دعاوى الصهيونية العالمية بحق اليهود في الأرض الموعودة، وتماهي بعض الأصوات المسيحية المتطرفة في الغرب مع الخرافات الصهيونية، وخفوت صوت العقل والحكمة التي تقول بانه لا يمكن تحقيق “السلام الحقيقي والاستقرار” إلا عندما يرى الجميع أن حقوقهم مصانة وأن ظل العدالة يستظل به جميع البشر دون تفرقة.