د. بلال اللقيس*
العالم كله مأزوم . لا تكاد ساحة تفلت من حذر شديد أو توّجس وبعضها قلق على المصير بعدما قيل أنّ مسائل الوجود لم تعد مطروحة في عالمنا الحالي -المتحضر-وأنّنا تجاوزنا ذلك الى دول القانون بل والرفاه. ليتبيّن أنّ دولة الرفاه قد أخفت في أعماقها تدفقات الهيمنة وأخفت معضلة الأمن الأوروبي التي أمنتها المظلة الأميركية الأمنية لأكثر من صف قرن . أمّا أميركا فانفجرت بوجهها تحّديات متعاظمة وكذلك بقية الساحات والدول بما يوحي أننّا نشهد أكبر اصطدام للصفائح والعالم يبحث بعناء عن حالة استقرار وقواعد جديدة.
أميركا قوّة الهيمنة الأولى والأخطر في التاريخ البشري تسابق الزمن وتستعجل مواجهة التحّديات الخارجية والداخلية المتشّعبة وغير المسبوقة التي تطرق بابها بدءاً من اضطراب الهوية الاجتماعية وتعريفها الى صراع على هوية الدولة ونظرتها للعالم من حولها . تراها غير قادرة على منع صعود الشعبوية والديكتاتورية وعاجزة بالآن ذاته عن تصحيح بنية الليبرالية الديمقراطية . هي مشتتّة بين العقلانية والايديولوجيا وبين التعويل على القوّة الصلبة أم القوّة الناعمة وبين افتراض الحاجة الى النظام الدولي السابق وتحالفاته المتعّددة الأطراف أو التخّلص منه ومن أعبائه ومعوِّقاته !.
والأخطر الذي تعاني منه أنّها صارت فاقدة قدرة انتاج خطاب تقّدمه للشعوب وتجذبهم اليه _ تحالف الديمقراطيات فشل _ ولا يوجد خطاب للشعبوية أصلاً ، ينحسر وجه تميّزها في الجانب العسكري والتقني بينما تشهد انهياراً مهولاً في الدبلوماسية ولغة السياسة والالتزام ولم تعد قادرة على إقناع الدول ولا استقطارها نحو ما تريد ، تدريجياً تبدو كأنّها في مواجهة الكّل الآخر حتّى حلفائها التقليديين أمّا مالياً واقتصادياَ فتنقسم الآراء حول تقدير صحة اقتصادها وكيفية الخروج من حلقة عجز تقترب من 40 ألف مليار دولار . آخر الصدمات أن ترى أعرق جامعاتها تنتهج مكارثية حيال كل رأي آخر بما يشير أنّ الحرية صارت مهدّدة ويستحّب النظام السياسي الديكتاتورية على الديمقراطية والليبرالية. شارع عريض منها يرى أنّ المكانة والحلم الأمريكي قد تبّخر . أمّا الصهيونية كايديولوجيا متعشعشة في البيت الأبيض والإدارة والدولة العميقة فهي تهديد كبير يخّيم على قرار ساكني البيت الأبيض ،كثيراً ما دفعتهم الى صراعات في منطقتنا لم تتضّح فيها المصلحة الوطنية الأمريكية .لا نفترض أنّ لأميركا ترف الوقت والإمكانات لتنجّر الى حروب مفتوحة في غرب آسيا . تنافسهم ومستقبل العالم والاقتصاد سيكون في الشرق حيث الأولوية المطلقة مع ما يحتاجه ذلك من تركيز الجهود والحّد من افراط التمّدد وتركيز الأولويات والتخّفف من جوانب من عبء القارة العجوز أوروبا وتأهيل مجتمعها الداخلي ليكون مهيأ لأعباء وفرص واستثمارات المرحلة المقبلة . وهذا يحتاج سياسات تعزيز الثقة وبنائها كي تنجح أميركا في إبعاد الشعوب والدول عن خيار الصين أو عن تكتل شرقي حيوي وصاعد بمواجهة غرب جلّه مأزوم وهرم ، وهل لأميركا أن تسّير كل دول العالم بالضغط والقسر وتدفعهم الى التخّلي عن مصالحهم دون تقديم بدائل ، لقد ثبت فشل ذلك .
أمّا الغرب الأوروبي فهو يتحضّر لاضطراب كبير على أثر الانكشاف الأمني والسياسي للقارة الأوروبية الزاحف رغم محاولات ماكرون الأخيرة لإظهار هوية أوروبية سياسية مستقلة . المنال صعب جداً ، فرنسا منقسمة على ذاتها وحكوماتها لا تستقر وتراجع نفوذها عالمياً بشدّة ، وماكرون ليس ديغول, هو نتاج مؤسسات البنوك والمال والنيوليبرالية التي هي امتداد سياسات أميركا ناهيك أنّ ديغول ورغم مكانته فشل في تحقيق ذلك وصارت من بعد ذلك فرنسا مستتبعة لأميركا . أوروبا اليوم لأوّل مرّة يحوم فوق رأسها سؤال مستقبلها الأمني مع الناتو وما يستتبع ذلك من مستقبل الاتحاد الأوروبي , هل هو اتحاد أم المظّلة الأمريكية التي ظللّته وهندسته وفق تقديراتها وليس فقط إراداتهم هي التي جعلت له فرصة “اتحاد”!!، هل ستعود ألمانيا أوروبية وهل تتحمل أوروبا أن تكون ألمانيا أوروبية !! فالحرب العالمية الأولى والثانية كلّها تمحورت حول ألمانيا !! حين جهدت الحلول لجعل ألمانيا مقسّمة أو لجعلها أوروبية لكن مجرّدة من جوانب قوّة عديدة وبدون أظافر ولا أنياب بضمانه أمريكية للأوروبيين ، لأوّل مرة المظّلة الأمنية التي حمت الاتحاد الأوروبي وأراحته وخلّته لدولة الرفاه بدأت تتفسّخ وتنزاح عنه ، لأوّل مرّة ينتابه القلق وتتصاعد الشعبوية فيه كالدومينو ، لأوّل مرّة يسأل هل للإتحاد الأوروبي أن يستّمر مع اقتراب عمر الناتو من نهايته وكيف! لأوّل مرّة باتت فلسفته لدولة الرفاه في أزمة واستعصاء ، لأوّل مرّة الأسئلة الكيانية باتت تقض مضجعه . إذا انتصرت أميركا في صراعاتها المفتوحة سيصيروا ليس أكثر حكومات تابعة بالكامل لإرادة الغرب وتمّحي خصوصيتهم– وهو ما كان يخشاه ديغول – وإذا فشلت أميركا فهم لن يقدروا عن القيام بالمهمّة ، ومن الآن حتّى يتمكّنوا من لعب دور متمايز في السياسة والأمن وغيره ( يحتاجون عقد بحسب بعض الدراسات ، وهذا مع فرض أنّهم توافقوا) يكون سبق السيف العزل .
روسيا تفرك يديها فرحاً بترامب وطريقته ومقاربته للعالم ، إنّها تكره العولمة والديمقراطية والليبرالية وتشمئز منها. يروق لها مقاربة ترامب للعالم – مزيج من قومية وشعبوية وديكتاتورية – . هي لا تقدّم نفسها كحامل مشروع ولا تهدف لتحّدي أميركا ولا لمنافستها عالمياً إنّما جّل مطلبها هو احترام مكانتها وموقعها الجيوبوليتيكي وعدم التعاطي معها كدولة عالم ثالث والاعتراف بشخصيتها وأمنها الحيوي من الغرب . مشكلتها مع الغرب هي في توجسها من تغّير سياسساته بعد كل دورة انتخابية في أميركا ، ماذا لو تراجعت الترامبية !! وهل من ضمانة لبقاء ترامب وترّسخ نهجه ! . لذلك يقلقها ذلك وتتحّسب لهذا السيناريو بما يجعلها تتمسّك بعلاقات متينة ومتشعبة مع قوى مناوئة لأميركا أو منافسة في مقدمها الصين وإيران. فهما رئتاها في عالم متقلب وغرب غير مستقر في سياسته حيالها ومتأرجح ، هي تحتاج لجسر يعبر من فوق أوروبا نحو أميركا وتحتاج لجسر يعبر من فوق تركيا (إذا بقيت ناتوية) الى المنطقة والمتوسط والمحيط وبعض دول الخليج وتحتاج أن لا تقترب من الصين أكثر ولا تبتعد عنها في الآن ذاته .
ولا يخفى أنّ روسيا تحتاج لثورة داخلية في نمط الحياة الاجتماعية ونموذجها السياسي وفي التقانة وإلاّ لا يمكنها أن ترهن نفسها فقط لتناقضات الآخرين إذا ما أرادت أن تثبت في موقع دولي متقّدم فضلاً أن تشّكل أحد أعمدة البناء الدولي المنتظر كما يحكي نخبها .
الصين مترّددة في الجيواستراتيجيا وزاحفة في الجيو اقتصادي وتفضل دوما الأخير . ليست في رغبة ولا وارد الصدام مع أميركا ، مشروعها الوحيد للخارج هو الحزام والطريق ، هو محّل اهتمام للشعوب لكنّه غير مكفول ، تعوزه الحماية : لمن يريد السير على هذا الطريق – دوماً هناك من يتراجع عنه بسبب سيف التهديدات الأمريكية والعقوبات . طريق بحوافز فقط ودونما ضمانات لمن يريد السير فيه لا يكفي – الجيواستراتيجيا تحتاج للحافز والضمانة والتأمين على السواء – . تأمل أن تستمر بالمنافسة الصامتة وتنتهز فرص تصادم الآخرين مع هيمنة أميركا لتحسين أوراقها ، رؤيتها للصراع تقوم على الاقتراب والتشابك مع عدوها على طريقة السومو الصيني ، لا تحمل رؤية ايديولوجية ، تفضل من الناحية السياسية “النظام على العولمة ” كروسيا لكنّها من الناحية الاقتصادية تفضل العولمة على الحمائية والقومية . هي تعلم أنّها محّل نظر كل الإدارات الأمريكية وأنّ الصراع يسير الى الشرق معها . وأنّ مسألة تايوان خنجر في خاصرتها وحذرها يزداد منه من دون وجود قدرة فعلية على مواجهته في ظّل اعتمادها على بحر الصين والأمان فيه لخطوط التصدير والتجارة . إنّها حذرة من ترامب ومتوّجسة كونه رفع من وتيرة معركة السيطرة على المعادن وفعّل مسار مجلس الأمن الأعلى للتقانة في الولايات المتّحدة لكن بالآن ذاته تخشى من الإدارات التي تؤمن بالأحلاف المتعّددة الأطراف كالتي كان يقودها الديمقراطيين بمواجهتها . اليوم هي أمام سؤال لا مفّر منه ولا حياد فيه : ماذا لو انفجر “الشرق الأوسط” ؟؟ كيف ستضمن تأمين حاجاتها من الطاقة كشرط لنمو مقبول ومستدام ، فأي تراجع في التنمية في الصين يعني انهياراً وارتطاماً داخلياً . وجود إيران قوّية هو بمثابة عامل موازن يجعل العرب أقّل اندفاعاً للحضن الأمريكي ويؤمن للصين متطلباتها بضمانات معقولة .
الكيان الصهيوني الوجه الآخر للنظام الأميركي ، تقوى فيه العولمة أو الشعبوية إذا ما قويت في أميركا العولمة أو الشعبوية وتنحسر فيه إذا انحسرت في الولايات المتّحدة كما ويُبحث عن تغيير وجه الدولة والتحول الى الديكتاتورية في أميركا كما في الكيان ، هي إسقاط أمريكي في منطقة غرب آسيا بامتياز ، تتماهى معها في كل شيء. الكيان يخوض معركة التمّدد ومع ذلك يزداد قلقاً بدل أن يتلمس الطمأنينة (راجع الهجرة المعاكسة لا سيّما للنخب كيف أنها في الذروة والانقسامات الحادة في الداخل رغم الانجازات العسكرية في الخارج ), الانقسامات الداخلية تهّدد كل شيء ، صارت ديكتاتورية وكيان عنصري قتّال وبلا قفازات وفي تحدي مع كل العالم , تخسر التعاطف معها وتخسر معركة الأجيال لحسابات ضيقة . تحاول الافرط في استخدام القوة لتعوّض غياب الرؤية ، الكيان يعيش في الماضي ويحاول تسويغ عالم ما قبل الحضارة على واقعنا الحالي , وقتها كان يمكن تهجير مجتمعاً بالقوة . يغفل أنّ القوّة كلّما أسرفت فيها وفي استخدامها تفقد معناها ويصعب عكسها سياسياً ، فالعالم لم يعد ذاك الذي يُذعن لامبراطور أو لإمبراطورية أو لقاتل أو مجرم ، لذلك هو لا زال يعيش ويقاتل في الماضي ولو أنّه يستخدم أدوات وتقانة الحاضر ، وكلّما زاد تعنتاً وصلفاً وامتلك القوّة العسكرية ازداد جهلاً بحقيقة الواقع ومشكلاته وصعوباته وصولاً لاستحالة معالجتها بلغة القوة أو بمزيد منها (القوة). قدرة الكيان على حمل هذا التوّسع الذي يسير فيه اليوم وملئه كما يريد ضعيفة ومجتمعه عاجز عن حمل وتحمل تبعات هذا التوّسع والأهّم من ذلك أنّ دوافع متعددة ومتشاكسه تتقاطع آنياً فيه وليس إرادة متّسقة ومندّكة ومستدامة ما يجعل خطواته كلّها تحمل بذاتها بذور الإرتكاس والارتداد . إنّ إسرائيل هذه التي تمكّنت في عام أن تخضع العرب وفلسطين عام 1947-1948 وتفرض اتفاقيات وقرارات دولية تعجز اليوم رغم كل القوّة ومع تجاوزنا لعام ونصف على 7 تشرين لا تزال عاجزة عن تغيير واقع غزّة والضفة ولم تهتد بعد لتصور وخارطة طريق الا البقاء في دائرة مغلقة من صراع مستمر ، بينما العفن يضرب جسدها الداخلي وانعدام الثقة .
كيان نتانياهو لا يزال بعيدا جداً عن بلوغ أمان وطمأنينة التجمع الإسرائيلي بل السلطة فيه تهّدد ما تبقى من عناصر الأمان الذاتية (مؤسسات الدولة) . لا زال يسير نتانياهو بلا أفق وبدون وضوح محددات اليوم التالي في غزّة وفلسطين وفي كل الساحات , ليس امامه إلاّ لغة الحرب والرهان الموازي على تغيير هوية الدولة تحت يافطة استمرار الحرب.
أمّا الدول العربية فحالها بين كيانات متفجرة أو تنتظر الريح بقلق وتترقّب المآل ، يحاول بعضها إشباع شهوة الحليف الأمريكي بإغداق المال لكن لا ضمانة ! فالامبراطورية لا حدود لشرهها . الدول العربية متحّيرة في أمرها ، لا هي قوية باتحادها ولا حتّى بجامعتها ولا أيّ من دولها قوية بذاتها ولا هي قادرة أن تتكئ على عامل وثيق لغربتها عن شعوبها , هي بلا عزم ولا إرادة ولا رؤية ، لا قادرة السير الى هنا ولا الى هناك , تفضّل اللعب من خلف الستار على طريقة التظاهر بالحياد الايجابي كي لا تنكشف وكل يوم يمضي يضيق هامش الحياد عليها. هي تنتظر ما ستؤول اليه نتيجة الصراع بين القطبين المقاوم والأمريكي-الإسرائيلي في المنطقة ونتيجة الصراع العالمي وتحاول أن ترضي من يهددها بالهدايا أو بالتنازل . مشكلتهم هذه المرّة أنّ صراع القطبين فيما لو تفجّر فمسرحه ساحاتهم حيث الانتشار الأمريكي ( وأحياناً الصهيوني ، وحيث البترودولار الذي تعتمد عليه العملة الأمريكية لدعم العدو الصهيوني وقتل الفلسطينيين ، وحيث من يضطلع بدور الحامي الشرقي للكيان والضامن لممّر الدعم حتى في ذروة الحرب على غزّة)، فالى متى يستطيعون التزام المناورة و”الحياد” والعمل بالخفاء. الرياح ستلفحهم كيفما كانت مآلات ونتائج الصراع إن انتصر أحد الطرفين أو امتدّت وطالت الحرب فيما لو وقعت . إدارة لعبة التخّفي وادعاء الحياد بين فلسطين والمقاومة من جهة وأميركا وإسرائيل من جهة أخرى شارفت على نهايتها إن لم نقل انتهت فعلاً وبالتالي هم أسرى القلق مّما هو آت مع احتدام الصراع وتشعبه واحتمالية تغيّر طبيعته وطرائقه ووسائله .
تركيا دولة مؤثرة ، تحاول بدأب لكنّ محاولاتها لا تخرجها من شرنقة . إنّ أسس أمنها الاستراتيجي وكينونتها عبارة عن حلبة مخاطر وتهديد . هي تحسن التكتيك متواضعة في الاستراتيجيا. تحاول البحث عن دور وإقناع الآخرين به لكنّها سرعان ما تلبث أن تجد نفسها في قلب العاصفة واللااستقرار . بين فينة وأخرى يتخلى الخارج عن خدماتها وحاجتهم اليها فتقررّ كل من أميركا وروسيا أن تكون السعودية هي الدولة الراعية للحوار حول أوكرانيا بدلاً عنها ، ويتّم استبعدتها عن طاولة غزّة رغم كل الخطاب الليّن الذي حرصت عليه حيال إسرائيل (مؤخراً غيّرت نبرة الخطاب جزئياً حيال نتانياهو ). لا يمكنها أن تستمر في اللعب على الحبلين والمناورة والتوسط بين “جبهة المقاومة وأميركا” لتوسعة نفوذها فهذا لا يشّكل ركيزة يمكن البناء على أساسها ، هي تتحرك بلا خطاب يحدد لها تموقعا واضحاً من الصراع فتستغرق بلعبة التكتيك لكنّ المرحلة لا تتحمل التذبذب بل تحتاج الى الوضوح والفعل ، كثيراً ما تمنّى أهل المقاومة أن تكون جزءاً من مشروعهم وجناحاً لهم في الصراع مع الكيان الصهيوني لكنّ إرادة السلطة السياسية لم تتوفّر بعد لأسباب يصعب تبريرها .
إيران تعاني من تحّديات وتهديدات كثيرة وتعيش الحذر والضغوط الكبيرة والمؤلمة ! لكن لها هوية , هي مرجعية مشروع المواجهة العالمي لأميركا والصهيونية . هي الأكثر تماسكاً داخلياً وصاحبة النفس الأطول . واضحة الهوية والهدف وتسعى تحت هذا السقف أن تناور وتمارس التكتيك السياسي والعسكري والدبلوماسي فأحياناً تصير عند حافة الهاوية وأحياناً تفاوض وهي منذ ثورتها لا تنفّك تبحث عن فك الحصار عنها وإيجاد فرص جادة وتحالفات ولم تجد حتّى الآن من الأنظمة العربية والإقليمية تجاوباً كافياً لكنّها وجدت ذلك في كثير من الشعوب رغم حجم المعضلة الأمنية والطائفية التي كرّسها الغرب في منطقتنا . إيران أمام تحديات كبيرة وربّما تسابق الزمن تحّسباً لحرب تتهّددها من إدراة ترامب ، لكنّها بنفس الوقت تستكشف فرصاً كثيرة متوّقعة وكبرى إذا ما تراجعت أميركا عن العدوان عليها أو إذا نجحت هي في إفشاله !! أو إذا تطوّر العدوان ليصير حربا إقليمية كبرى تؤدي الى انهيارات في دول عديدة ( لا زل احتمال الحرب مستبعداً عقلائياً ). ترى أنّ صمودها وإفشالها لأهداف أعدائها إذا ما نجحت فيه كفيل بتفجير التناقضات بين أجنداتهم وفي واقعهم وفي بنياتهم الداخلية وخطوطهم الخلفية وسيكون حكم ترامب أوّل غيث التزعزع إزاء أي خطأ عسكري في حسابات إدارته حيال إيران.
أمّا قوى المقاومة “غير الدولاتية” الممتدّة في شعوب الإقليم فلديها المناعة من أن تصب بالإحباط أو الخيبة رغم صعوبة الصراع وحدّته والضربات التي نزلت بها، وجودها متجّذر ويتعّزز على عكس ما رمى اليه عدّوها . تنظر لنفسها أنّه لو لم تكن قوّة استثنائية وعصية عن الهزيمة لتمكّن العدو من فرض شروطه الأمنية والسياسية عليها ولأخضعَها بعد حرب هي الأشّد فتكاً في تاريخها ، لكنّها استطاعت أن تعيد تدوير الضغط وأن تنبعث من بوابة رأسمال إجتماعي وثقافي وفكري ومشروعية تاريخية غير مسبوقة وفّره لها إسنادها لغزّة ومعركة أولي البأس . تفترض أنّه يكفي اليوم اعتماد استراتيجية الصمود وتعطيل أهداف العدّو وجعله يواجه استحقاقاته بانقسامات وتناقضات داخلية واستقطاب ولا استقرار ، فالصبر والتحمل وإحباط أعدائها فنّ وثقافة تملك قوى المقاومة ناصية التعاطي به ، بينما هي تستمر في مسار البناء وتطوير مقاربتها في إدارة القوّة المتوافرة والمتاحة بين يديها وتنسيقها ضمن استراتيجيات دفاع مشتركة وتكامل مع الدولة – ربطاً بكل مجتمع وساحة وخصائصها – .
يبقى تحّدي مكانة أميركا بعيون العالم . الأهّم هنا أنّ الشّك شّق طريقه عند كل حلفاء أميركا من دول الجنب في كندا الى أوكرانيا والاتحاد الأوروبي ومن قَبلهم , وأيضاً الكيان الصهيوني حتّى ولو ادّعى بغير ذلك .. لذلك وجب على الذين يبنون مشروعهم على نظرية الحرب الأمريكية على إيران أن يتريّثوا !! ماذا لو سقطت الفرضية وبدء مسار الدبلوماسية طريقه باعتباره الأقّل سوءا أميركيا وإيرانياً ، وماذا لو تيّقن الأمريكي أن لا نتيجة من حربه على اليمن وبدء يبحث عن مسار آخر ، وماذا لو انتقل لتهجير الفلسطينيين على حساب حلفائه والتحّدي المرعب للأنظمة العربية فيما لو تراجعت عن الثوابت … “إنّ مشهد أميركا متخطية رأي حلفائها يؤشّر لمسار وفهم جديد لما حولها “.
بعد هذا التقييم السريع للوضعية العامة لأكثر القوى تأثيراً في ولادة النظام الدولي الجاري، يمكن لدول منطقتنا وقوى المقاومة وجبهتها أن تلحظ فرصاً ممكنة أو تعمل على استكشافها في زمن تضعضع واختلاط دوافع الخصوم وتشاكس أجنداتهم وتهافت مصالحهم والذي نتوّقع أن يزداد.
وعليه يجب أن تعمل جبهات المقاومة ودولها لتعزيز صمودها السياسي وأمانها المجتمعي ووحدتها على قضيتها وصبرها وعدم التسليم بشروط عدّوها مهما كانت الأثمان عالية واستكمال بناء قوّتها الشاملة لا سيما في إنسانها حيث تميّزها وأسطورتها ، عليها أن تستكمل ما بدأته ولا يشوبها شّك في حقانية منطقها أنّ الدبوماسية ليس لها مكانة في عالم الغابة الذي تريده الإدارة الأمريكية عالم إماتة السياسة ولغة الحوار والدبلوماسية والحقوق واستبدالها بلغة المصارعة والتوّحش ،
ويجب أن تسعى قوى المقاومة ( إيران بشكل أساسي ) للإفادة من الواقع المعقّد والمضطرب الذي يلفح المنطقة ويتهدّد كياناتها ومستقبلها للمسارعة للحوار والتفكير في بناء رؤية لأمن الإقليم تتكامل فيها القوى الإقليمية بعيداً عن العدو الأمريكي الصهيوني وغيره من اللاعبين الدوليين وكل تنازل في هذا الطريق هو مكسب لنا جميعاً . فإذا لم تجد القوى الإقليمية لغة مشتركة وتصوراً سريعا وجاداً لبناء الإقليم فلن نجد بعد حين دول لتتقاسمها حكومات وزعامات وملوك!.إيران الإسلامية بمبانيها الفكرية لا تنفّك تؤكّد هويتها التي تقوم على نظرية المقاومة وعلى الانغماس والاندماج في الجماعة وأمة الإسلام ولا ترى نفسها حيثية في قبالتها بل جزء مندمج فيها ومعها.
ويجب التنّبه وعد التعّجل فلا زلنا وأعداؤنا في قلب المعركة والميزان الكلي يطرأ عليه يومياً جديد أو تتعدّل مثاقيله ويُضاف اليه معايير بعضها “إنشائية” الطابع ربطاً بطبيعة الصراع الحضاري الجاري وتوالجاته وتشّظيه، معايير ليست كتلك التي كرّستها المدرسة الواقعية عندما رأت العالم عالم القوة المادية والاستحواذ على الثروة والمال والإفراط بالقوّة أولاً بينما رأوه آخرون عالم الأفكار والقيم الإنسانية واكتساب المشروعية وجاذبية الطرح وضرورة اكتشاف الخط الفاصل بين عالم البشر وبقية الكائنات.
*كاتب لبناني