علي الزعتري*
أُريدُ أن أتذكرَ. لكن هل أنسى أبداً؟ لم أكن يوم النكبة في ١٩٤٨ ولا في ١٩٥٦. هما وما قبل ذلك تاريخٌ سردهُ لنا من عاشهُ، مع الأسى. في ١٩٦٧ حزنتُ من النكسةِ لكنني لم أفهم ما حدث باستثناء أننا كنا ننتصر ثم فجأة قالوا أننا انهزمنا وأن القدس سقطت. وفهمتُ أن عودةً للقدس كما كان والديَّ يأملان لن تكون. في ١٩٧٣ انتشينا أول الأيام ثم اكتشفنا أننا خُدِعنا بحربِ تحريك لا حرب تحرير. واعتقدتُ منذ بداية مذابح لبنان في منتصف السبعينات مروراً باحتلاله عام ١٩٨٢ و قبيل ذلك عندما سقطت مصر في مخيم ديفيد و بعدها المنظمة في أوسلو والأردن بوادي عربة أننا في كابوسٍ يستحق أن نصحو منه لكن مع توالي النكسات امتدَّ الكابوس في العمر والألم وأيقنتُ أنَّ الكيل بمكيالينِ هو القاعدة التي تحتوي كل طفحٍ وطنيّ. أن تدخلَ في عين الإعصار و تُغمِضَ عينيك وتمضي كأن الإعصار شتوةً ربيعيةً. لا تمتلك ردَّاً لو غضبت لأن الجواب العارم هو أن السلام هو القاعدة التي تأتي بالأمن والرفاهية وأن غضبك ضارٌ بالمصلحة العامة وأن كرامتك لا تهم ما دام “الوطن” يشعر بالكرامة و لو كان اسمها نكبة ونكسة و هزيمة و استسلام. و صرتُ بمرور السنوات مجرد آليةً تلقائيةً يرتفع فيها الغيظ بمقدارِ ما يعلو الكيل! أغتاظُ و أحنقُ وأثورُ ثم كأن شيئاً لم يكن.
كان إحتلالَ الكويت وسقوط بغداد وتقسيم السودان و الانتفاضات الفلسطينية وكل حروب غزة و معاهدات الصلح مع اليهود مُعَزَّزَةً تحت بند “وإن جنحوا للسلم” و محرقةَ سوريا و تشتت ليبيا و حرب السودان و غزو اليمن و نتائج القمم العربية السياسية والاقتصادية والعاجلة والطارئة و كل تصريحٍ ألمعيٍّ لأمين الجامعة العربية و ما يُبدي أمين عام الأمم المتحدة من قلقٍ و محرقة مذبحة غزة كانت جميعها من صنفِ الكوابيس التي لا نصحو منها. مثلها مثلَ استقبالِ الصهاينة كالحبايب في عواصم عربية يُرفَعُ فيها أذان الصلاة خمس مراتٍ في اليوم، و عندما تنقلب أجزاء من الأراضي المقدسة لنوادٍ للمجون و يخرج الوُعَّاظ ينصحون باتباع ولي الأمر و لو فعل ما فعل، و عندما يصبح الفساد والتهامَ الحقوق و انسلال الفاسدين دون عقاب هو القاعدة. كادَ الكيل يطفح عند كل كارثةٍ تركت مئات الألوف جوعى و مشردين ومهجرين و مُهانين بأوطانهم و خلالَ كل نقاشٍ عقيمٍ مع مسؤولٍ يُبَرِّرُ عذابات الناس بالسيادة والأمن الوطني. يطفح الكيل في البيت والشارع والدائرة الحكومية من سؤالٍ عماذا يجب أن نفعل و ليس المسؤول بأعلم من السائل. و الدوران من مكتبٍ لمكتبٍ تُعَشِّشُ فيها البطالةَ المُقَنَّعةَ. يطفحُ الكيل من زوال الأخلاق و ترسيخ الوقاحات أنموذجاً للحياةِ. و من تلك القباحةَ التي تقفزُ في الوجه من زوايا المجتمع الأكول بشراهةٍ للحقوق و المُغرم بتحليل الحرام باسم الأرزاق. باتَ يطفح كيلي كل يوم من كل شيء له أدنى علاقة بالانتماء و من نفسي و عجزي. من حمل السُلَمَّ بالعرض، والأجدر أن أتسلقهُ كما قال لي أحدهم يوماً ما. صارَ الطفحُ والكيلُ مَرِنَينِ لا ينقطعان بل يتناوبان و يتأقلمان في علاقةٍ طرديةٍ، فلا الطفح ينتهي ولا الكيل يفرغ. لا أدري كيف أَتعايشُ مع هذه المرونة الذليلة في النَفْسِ؟ لا أَصِلُ لدرجةِ الغضبِ الأحمر الساطع حتى تبردَ نفسي برودةَ الثلج، مع شيئٍ ثقيلٍ يبقى راسخاً في الصدر. هل هو الصبر الاستراتيجي أم حكمةٌ في خريفِ العمر؟ متى يطفح الكيل مثل بركانٍ؟ يوماً ما. أو غالباً لا.
عندما الصهيوني القبيح أفيخاي أدرعي وقف أمام لافتةِ القنيطرة داخل سوريا تذكرتُ صورَ تجوالَ الأعور موشى دايان في القدس بعد سقوطها ورقصات الصهاينة في بيوت غزة المُستباحة وآرييل شارون في بيروت. كيف يصل المستقرد الصهيوني لِداخل سوريا ولا يواجههُ إلا مواطنٌ يستشهدُ ذوداً عن العرض والأرض؟ كما وصل شارون لبيروت. ذات الهزيمة. كيف لأحدهم الفلسطيني أن يصافح هذا الأدرعي بكل محبةٍ في أحد الشوارع الفلسطينية دون خجل وإخوةً له يُفاخرُ الأدرعي بقتلهم على مسافة أمتار؟ لعنتهما معاً فكان هذا أضعف الإيمان. تبلغ القلوب الحناجر عندما الدم يسيل من جسدٍ طفلٍ قطعت الصهيونية رأسهُ الجميل وعندما يُستباحَ الأقصى ويُقْفَلَ المسجد الإبراهيمي في الخليل و يُطالب اليهود بأملاكهم و أمجادهم في الجزيرة العربية و يحجون لجربة التونسية و يُمنع الفلسطيني من الصلاة في القدس و الخليل. عندما تُدَمَّرَ الصهيونية البيوت في مدن فلسطين، في الضفة الغربية تحت نظر ومسؤولية السلطة الفلسطينية، بينما يتجول المسؤول الفلسطيني بالسيارات السوداء و الحرس شبيه الأفلام البطولية الأمريكية لا وبل يعاون الصهيوني في القبض على الفلسطيني المقاوم، أليست هذه فضيحةً وخيانةً يطفح منها الكيل؟ هل هو فلسطيني هذا المسؤول؟ هل الفلسطيني الذي “يخدم” في الجيش الإسرائيلي أو يخدمهُ باصطياد المعارضين للاحتلال من البشر؟ هل الفلسطيني الذي يقيم أعراسَ الليالي الملاح ويفتتح الأسواق بالرقص و أهله يُحرقون هو حقاً فلسطيني؟ هل لا يطفح الكيل عندما تقرأ عن “السياح” الصهاينة في الإمارات العربية المتحدة استجماماً من المعارك التي خاضوها في غزة و لبنان و في سيناء بعشرات الألوف بمناسبة عيد الفصح اليهودي؟ ألا يطفح الكيل من تُقايِضٍ نسمعه لقبولِ تهجير الفلسطينيين للمنافي الجديدة؟
بلى يطفح الكيل و نغطيهُ خجلاً لا إيماناً بلا حول ولا قوة إلا بالله. لسنا أهلاً للوطنية ولا كيلنا كيلَ أوطانٍ ولا دينٍ. نحنُ أحياءٌ في غيبوبةٍ اختياريةٍ من الخرفِ ننتظر معجزةً لا تأتي دون عَزْمِ الشعوب، و لا أخالها تأتي في عهدنا.
*كاتب أردني