د .هاني الضمور
منذ أن فُرض اسم “إسرائيل” على خارطة العالم السياسي، والعالم العربي والإسلامي يعيش ارتباكًا فكريًا بين قداسة الاسم في النصوص، وواقع الكيان على الأرض. فمنهم من يراها امتدادًا تاريخيًا لما ورد في الكتب المقدسة، ومنهم من يرفض هذا الربط رفضًا قاطعًا. لكن السؤال الملحّ، الذي يستوجب قراءة واعية وهادئة بعيدًا عن الحماسة والانفعال، هو: هل تمثّل “إسرائيل الحديثة” تلك الأمة التي ذكرها الله في القرآن؟ وهل ما يُرتكب اليوم في فلسطين من جرائم واستيطان يُغطّى برداء الوعد الإلهي؟ أم أننا بإزاء احتلال سياسي يتدثّر بثوب الدين ليمرر أطماعه ويُضلل العقول؟
“إسرائيل” في القرآن، ليست دولة، ولا جيشًا، ولا مشروعًا استيطانيًا، بل هو اسم نبي من أنبياء الله، يعقوب بن إسحاق، الذي كرّمه الله بالنبوة، واصطفى من نسله أسباطًا كانوا في وقت ما شهودًا على توحيده. أما “بنو إسرائيل”، فهم تلك الجماعة البشرية التي سارت في درب طويل بين الإيمان والعصيان، بين التوحيد والانحراف، حتى خصّهم القرآن بالذكر مرات عديدة، في آيات تحمل الشكر والتحذير، الذم والثناء، الوعد والوعيد.
وقد جاء الوعد بالأرض في نصوص الكتاب، نعم، لكن ليس وعدًا مفتوحًا على مصراعيه، بل مشروطًا بالإيمان والعدل والطاعة. حين قال الله لموسى وقومه: “يا قومِ ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم”، لم يكن ذلك تفويضًا دائمًا، بل دعوة لأرض لا يدخلها إلا من يستحقها، فكان جوابهم الرفض والخوف، وكانت النتيجة أن حُرّمت عليهم أربعين سنة، يتيهون في الصحراء عقوبة على جُبنهم وعصيانهم. فكيف بمن اغتصبها من أهلها، وسفك الدماء باسم الميراث الإلهي؟
أما إسرائيل الحديثة، فهي كيان وُلد من رحم مشروع استعماري، قادته ليسوا من نسل الأنبياء، بل من سلالة السياسة الأوروبية، أولئك الذين آمنوا بالصهيونية كأداة قومية، لا كعقيدة دينية. هرتزل، بن غوريون، وغولدا مائير لم يحملوا التوراة في صدورهم، بل حملوا خرائط نفوذهم في جيوبهم. لم تكن صلاتهم في القدس، بل في عواصم القرار الغربي، حيث تُرسم الخرائط وتُنسف الحقوق.
ومن المفارقات التي تُبكي العقلاء، أن كثيرًا من الحاخامات اليهود وقفوا ضد قيام هذا الكيان، لا حبًا في العرب، بل وفاءً لتعاليم التوراة التي حرّمت قيام “إسرائيل” قبل مجيء المخلص المنتظر. كانوا يرون أن قيام الدولة اليهودية الآن جريمة بحق الدين قبل أن تكون جريمة في حق التاريخ. ولعل جماعة “ناطوري كارتا” شاهدٌ حي على هذا الصوت المعارض، الذي يُقصى عمدًا من الإعلام، لأنه يفضح التوظيف البشع للنصوص.
وحين ننظر إلى الواقع، لا نرى نبوءةً تتحقق، بل نرى شعبًا يُقتل بدم بارد، وأرضًا تُنهب قطعة قطعة، ومقدسات تُدنس بقرارات عسكرية. نرى طفلاً يُقصف، وشيخًا يُعتقل، وبيتًا يُهدم، وعلينا أن نصدق أن هذا هو “وعد الله”! أية قداسة يمكن أن تغطي وجه هذا القبح؟ وأي نور يُبرر هذا الظلام؟!
المؤلم أن كثيرًا من العقول انطلت عليها الحيلة، فخلطت بين الديانة اليهودية وبين المشروع الصهيوني، وبين النسب الديني لبني إسرائيل وبين الجنسية الإسرائيلية. وبينما يقف ملايين من يهود العالم ضد سياسات الاحتلال، نجد بعض الأصوات في الإعلام العربي والإسلامي تسوق الرواية الصهيونية من حيث لا تدري، حين تردد بأن لإسرائيل “حقًا تاريخيًا”، أو بأنهم “شعب الله الذي وعده بالأرض”، فتُسهم في ترسيخ الخرافة، ولو بحسن نية.
الحقيقة الناصعة، التي لا يطمسها ضجيج الإعلام ولا صمت المنظمات الدولية، هي أن فلسطين لم تُغتصب بنصوص دينية، بل اغتُصبت بقوة السلاح، وسكوت العالم، واستغلال الدين لتضليل الشعوب. وأن ما يحدث اليوم في غزة والضفة والقدس، ليس معركة نبوءات، بل معركة حقوق وأرض وعدالة.
لقد آن لنا أن نفكك هذه السرديات الخاطئة، وأن نفرّق بين النص المقدس، وبين من يعبث به لأجل مكسب سياسي. آن لنا أن نقولها بصوت العقل: إن الأرض لا تُمنح بوصية قديمة، ولا تُحكم باسم ماضٍ منقطع. الأرض لمن يعمرها بالعدل، ويصونها بالحق، لا لمن يغتصبها ويقتل أهلها ويزيف تاريخها.
فلتكن كلمتنا في وجه هذا الباطل: لا قداسة لاحتلال، ولا شرعية لوعد يُستخدم لتبرير الدم. وكما قال القرآن: “وتلك الأيام نداولها بين الناس”، فإن الحقّ حين يُظلم طويلًا، يعود أقوى، لأن الأرض لا تنسى أهلها، والتاريخ لا يحترم المُزوّرين.
