د. هاني الروسان*
رغم انه لا يوجد ما يؤكد الى الان ان القصف الايراني الذي طال عدة مدن ومواقع اسرائيلية في اعقاب التصعيد الخطير الذي مثّله القصف الأميركي لمواقع نووية إيرانية فجر اليوم، هو الرد الايراني على هذا القصف وان برمجته كانت سابقة وجاءت صدفة مع هذا التصعيد، وانه كان في سياق اعداد مسبق لطور من اطوار المواجهة الدائرة مع اسرائيل منذ اكثر من اسبوع، الا ان طبيعته ونجاحه غير المسبوق في تجاوز الدفاعات الاسرائيلية وعدد المواقع التي اصابها دفعة واحدة، رفع من مستويات الترقّب في عدد من العواصم الإقليمية والدولية حول ردّ الفعل الإيراني. فهناك عديد الاوساط الاعلامية والسياسية ترى في مسارعة طهران إلى إطلاق أكثر من عشرين صاروخًا على أهداف عسكرية إسرائيلية في الجولان والنقب وحيفا وتل ابيب وغيرها من المواقع والمدن في انه “رد أولي”، وان الأنظار لا زالت تتجه نحو احتمال مواجهة مباشرة مع واشنطن، وهو ما يبدو أن القيادة الإيرانية قد قررت تجنّبه في هذه المرحلة الحرجة على الاقل.
وعلى هذا المستوى فقد تكون لطهران مجموعة من المقاربات التي تتجاوز رد الفعل العاطفي المتهور، فما هي هذه المقاربات؟؟ او بصورة مبسطة، لماذا لا تتجنب ايران المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة مقابل توسيع نطاق المواجهة مع إسرائيل؟ وما هي المكاسب الاستراتيجية التي قد تجنيها من وراء خيار كهذا؟ وهل تفادي الحرب مع واشنطن: واقعية سياسية وإدراك موضوعي لموازين القوى؟
لا يحتاج المرء إلى كثير عناء لتفكيك أسباب امتناع طهران عن الردّ المباشر على واشنطن، رغم خطورة القصف الذي طال منشآت نووية حساسة مثل فوردو. فقد أدرك صانع القرار الإيراني، على ما يبدو، أن الدخول في مواجهة مفتوحة مع الولايات المتحدة في هذه اللحظة سيكون مغامرة خاسرة سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا، وانه يمكنه ان يستبدل ذلك بخيارات اخرى خاصة وانه يتقن كما يرى فالي نصر، الخبير الإيراني–الأميركي في شؤون الشرق الأوسط، أن ” …… فن الخطابة الثورية، …وانه براغماتي في لحظات الخطر الوجودي. ومهما بلغ حجم التهديد، فإن الردّ المباشر على قوة عظمى مثل الولايات المتحدة يظل احتمالًا ضئيلًا لأن القيادة الإيرانية تُدرك حدود قوتها التقليدية”.
وفي السياق نفسه، يشير كريم سجادبور، المحلل في مؤسسة كارنيغي، إلى أن “خسارة إيران في مواجهة عسكرية شاملة مع واشنطن ستفقدها ما تبقى من نفوذها الإقليمي، وتُعرضها لانهيار اقتصادي وسياسي داخلي قد لا تقوى على تحمّله في ظل الضغوط الشعبية والأزمات المتراكمة”.
وهذا ما يرجح الاعتقاد لدى بعض المراقبين، اقتصار الرد الإيراني على رسائل نارية تجاه إسرائيل، مع الحرص على أن تبقى واشنطن خارج دائرة المواجهة المباشرة. فالحرب مع أميركا عقلانيًا تكون محفوفة بعدة مخاطر، في حين ان التصعيد مع إسرائيل يبدو -من وجهة نظر طهران- ضرورة سياسية واستراتيجية. فمن خلال استهداف إسرائيل، تحقّق إيران جملة من الأهداف المتداخلة، فمن ناحية تحفظ ماء وجهها بعد القصف الأميركي، حيث في أدبيات محور المقاومة، لا يمكن لإيران أن تبدو ضعيفة أو مترددة، لا أمام حلفائها ولا خصومها. واستهداف إسرائيل يمكّنها من الحفاظ على صورة القوة الرادعة دون المجازفة بمواجهة كارثية مع واشنطن.
ومن ناحية ثانية فانها في تصعيد المواجهة مع اسرائيل تحافظ على مستويات زخم التأييد الشعبي العربي والإسلامي الذي حققته من خلال هذه الحرب، حيث لا تزال القضية الفلسطينية تشكّل رصيدًا سياسيًا مهمًا لطهران. وفي ظل تنامي الغضب الشعبي العربي جراء المذابح الإسرائيلية في غزة، تسعى إيران إلى تعزيز صورتها كحامية للمقاومة. كما قال جوزيف باهوت، مدير معهد عصام فارس في بيروت: “بقدر ما تتورط إسرائيل في مذابح غزة، بقدر ما ترتفع أسهم طهران وحزب الله كمحور للممانعة، وهو ما تحرص إيران على استثماره جيدًا”.
وربما الاهم ايضا ان تجنب المواجهة مع واشنطن وتصعيدها مع اسرائيل يبقي ساحة ومساحة الحرب داخل حدود السيطرة حيث يمكن لإيران التحكم بوتيرة التصعيد مع إسرائيل عبر حلفائها (حزب الله، وجماعة الحوثيين) بخلاف مواجهة واشنطن.وهذا ما يجعل منها معركة مدارة بأدوات غير مباشرة، تسمح لإيران بالمناورة من دون أن تُستنزف مباشرة.
وعلى مستوى اخر فانه يجب عدم استبعاد او تجاهل أيضًا الأثر غير المباشر لضغوط موسكو وبكين في دفع إيران إلى ضبط ردّها. فروسيا، المنشغلة بجبهتها الأوكرانية، لا ترغب في حرب كبرى تشعل المنطقة، في حين تخشى الصين على مصالحها النفطية والتجارية في الخليج. وقد نقلت مصادر دبلوماسية أوروبية أن “بكين وموسكو أوصتا طهران بالرد المحسوب، حفاظًا على التوازنات القائمة وعدم فتح جبهة مباشرة مع أميركا” حيث كان قد حذر المتحدث باسم الخارجية الصينية صباح امس من خطورة التصعيد العسكري ، ودعا إلى “ضبط النفس”، مؤكدًا أن بلاده “تعارض أي مساس بالاستقرار الإقليمي”، عاد اليوم واكد أن التوترات الأخيرة تتطلب “نهجاً دبلوماسياً ومحدوداً لتجنب دوامة التصعيد”
من ناحية أخرى، يعاني الداخل الإيراني من أزمة اقتصادية خانقة، واحتقان سياسي متصاعد. وقد أشار تقرير صادر عن مجموعة الأزمات الدولية إلى أن “القيادة الإيرانية باتت تخشى من أن يؤدي انخراطها في حرب شاملة إلى اندلاع احتجاجات واسعة، خصوصًا مع تراجع قيمة العملة وارتفاع معدلات البطالة والتضخم”. بالتالي، فإن التصعيد مع أميركا قد يؤدي إلى انهيار الجبهة الداخلية، وهو ما يحرص النظام على تجنبه.
ويبقى ان نقول رغم الخسارة الفادحة التي قد تكون لحقت ببرنامج ايران النووي وبرنامجها الصاروخي وبنيتها العسكرية والامنية الا انها ستكون اكثر ميلا لادارة الصراع بحذر، من خلال تجنّب الحرب مع واشنطن مقابل تصعيد موجه ضد إسرائيل. وهو خيار عقلاني في ضوء الموازين الراهنة، ويخدم أهداف إيران في الحفاظ على مكانتها الإقليمية، دون أن تدفع ثمنًا فادحًا لحرب قد لا تملك أدواتها.
لقد أثبتت إيران مجددًا أنها لا تسير بمنطق الثأر الفوري، بل بمنطق “الردّ القابل للاستثمار”. وهذا ما يجعلها تفضّل معارك الرمزية الإقليمية على مواجهات الكسر الكبرى.
*كاتب واكاديمي تونسي