الخميس , يوليو 17 2025
الرئيسية / اراء / صلاة بلون الدم!

صلاة بلون الدم!

د. لينا الطبال*
انفجار جديد، في كنيسة قديمة، على أرض أقدم من كل بيانات الشجب. وفي اللحظة التي تُرفع فيها صلوات من أجل “سلام سوريا” ارتفعت أرواح المؤمنين … في اليوم الذي يتم فيه تكريم القديسين أعادوا جلد السيد المسيح بحزام ناسف: انفجرت كنيسة مار إلياس في منطقة الدويلعة في دمشق: غبارٌ رمادي، ولهبٌ احمر فاقع…
لم تكن المرة الأولى التي يُفجرون فيها القداس، لكنها هذه المرة كانت اكثر وقاحة من المعتاد: رجل ملتحٍ، مغسول الدماغ، مسلح بالحزام وبالفتوى، دخل الكنيسة، اتجه إلى الوسط، ربما اختار المكان الأقرب إلى المذبح… ربما جلس بارتياح ونظر الى طفلة هناك، ربما تمتم دعاءه ذاك الذي يبيح القتل.. ربما نظر في وجه امرأة عجوز قبل أن يضغط الزر. لم يتردد…
قَدَم قربانه ببرود القاتل الذي يعتقد أنه سيُكافأ في النهاية… قَدَم على مذبح الرب الاشلاء والدماء والخشب المحترق…
الحكومة قالت: داعش. هكذا ببساطة، كما تقول: “التدخين يَقتُل”، داعش، هذا التطبيق المسلح الذي يُفتح عند الحاجة، ويُغلق حين ينتهي الغرض منه، داعش اذا… نعم داعش.
المراقبون الدوليون مشغولون بحرب ايران وامريكا و إسرائيل…لكنهم قالوا: “يا للهول”… والبطريركية بكت وأدانت… الازهر ادان أيضا… الرئيس السوري احمد الشرع، أعلن الحداد وتنكيس الأعلام في سوريا، مضحك… وكأن الأعلام في سوريا كانت مرفوعة أصلا… الأعلام في سوريا منكسرة ومنكسة منذ زمن، منذ سقوط أول شهيد في 8 ديسمبر 2024، او قبل ذلك بكثير…
دمشق، عاصمة التاريخ المصلوب، يجري اليوم تفجير كنائسها تحت أنظار حكومة أحمد الشرع، الحكومة التي أتت الى الحكم كشبح وورثت العار عن حكومة سبقتها في الخزي والعار …. بإمكاننا ان نكون غير متفقين مع حكم الأسد وغير متفقين مع حكم احمد الشرع أيضا… بلا عقد، بلا فذلكة وطنية رخيصة، ما الغرابة في ذلك؟
الغرابة ان نغفر للقاتل… فقط لأنه يحمل توقيع مختلف ولحية.
أحمد الشرع، رئيس يقود دولة بلا دولة، ما زال يتفنن في دفن الفشل تحت مسمى “المرحلة الانتقالية”… هل تعرف يا سيادة الرئيس ما هو الانتقال الوحيد الذي يحدث فعلا في سوريا؟
– انه الانتقال من الوطن الى القبر.
الاعلام أنجز واجبه كالعادة، اعلامنا الذي لم يعد يرف له جفن ويحضر الى المجزرة كما يحضر الى الفرح، يصور جثث على الأرض، صراخ، دم على المقاعد…رائع، لقطة قوية. الكاميرا تدور في الكنيسة هنا جثث واشلاء… الفيديو يجري منتجته، وتحميله، ثم نشره على السوشال ميديا مع موسيقى حزينة و”هاشتاغ” … يصل الينا ونشاهده ببرودة جثث في ثلاجات المشرحة، دون أي تعبير.. وننتظر المزيد. نحن المرضي المصابون بـ”تروما” حروبنا المزمنة، والمملة… تروما تشبه خيبة امرأة بحبيبها المصاب بالفصام: مرة يحبك، مرة يختفي، مرة يبكي، ومرة يصرخ عليك … وفي كل الحالات، أنتِ الوحيدة التي تبقى لتجمع الفتات. أما المرضى فيحتاجون جرعة اقوى اوعيار مزدوج كي يشعروا بشيء اي شيء… ونحن مثلهم نحتاج إلى جرعة أقوى، إلى “دوز” مضاعف من الرعب، كي نهتم، وكي لا نمر فوق الجثث ونكمل يومنا. لقد اعتدنا… وهذا هو مرضنا.
نحن نعرف القصة، نعرفها من قبل ان يولد هذا الانتحاري. نعرفها من مجازر الساحل، من صمت العالم حين تم ذبح المسيحيون في معلولا، من بيانات الخجل الرسمي حين ذبحت القرى الدرزية، ومن الليالي التي قُطعت فيها رقاب من يحملون الصليب في الطرف الآخر من الوطن.
في بلاد الانبياء، الكنيسة لا يتم تفجيرها صدفة… وفي هذا المكان الذي يُفترض أن تحرسه الملائكة، تبدو وكأنها تدير وجهها… من الخجل، او من القرف، او من الخوف… نعم الملائكة تدير وجهها من كل ذلك.
المسيحي السوري، الذي يُفجرونه وهو يُصلي، لا يهدد احد. هو، لا يملك مليشيا، ولا بئر نفط او غاز ولا حساب في بنما. كل ما يملكه هو ذاكرة ثقيلة وصوت شاحب وصليب صغير يتدلى من عنقه، ومنه، يتم التعرف عليه عند الحواجز.
في هذا الشرق، المسيحي هورب البيت أيضا، هو من نقش الأبجدية، من شيّد الحرف والمحراب، من حمل صليبه و مضى… واليوم يتم تقطيعه الى أشلاء.
هذا تماما ما يحدث في البلاد التي تجلس حكومتها في العراء السياسي، وفي المهجر، معارضة عرجاء تُلقي محاضراتها في مطاعم الفاست فود…
في ظل حكومة احمد الشرع، تتناقص الطوائف الصغيرة، او كما يسمونها “الأقليات”… ويتم محوها كالأخطاء الاملائية في دفتر الوطن… ولا أحد يتم استدعائه للمساءلة، لان دمهم في النهاية، لا يشعل الشارع، ولا يُنهي مسيرة سلام.
وفي كل مرة تنفجر كنيسة، ماذا نفعل؟ نُصلي او نَكتب كما أفعل الآن، … اعرف ان الكتابة لا تُعيد المذبح، ولا تُلصق المقاعد الخشبية، ولا تجمع أشلاء من كانوا يصلون هنا قبل لحظة. أكتب لأننا فقدنا كل أدوات الفعل… اكتب ايضا لهذا الرجل الذي ترك امرأة احبته في منتصف الطريق ولم يلتفت ويعترف انه اخطأ بحق نفسه وانه اخطأ بحقها أيضا… لقد ظن أنه قادر على الفرار من الحقيقة. هو لا يريد أن يرى، لكن الجميع يرى. الناس تعرف، وهو وحده يعيش في نفي مزمن.
تماما كما نعرف نحن متى يبدأ الذبح التالي…نعم، كنا نعرف أن الدور سيأتي على المسيحيين، كما عرفنا انهم وضعوا السكاكين على رقاب العلويين في الساحل. وحلقوا رؤوس الدروز في السويداء وجرمانا… كل شيء يتكرر نفس القاتل، نفس المشهد، نفس السياق، نفس الكاميرا الباردة، ونفس الجمهور الذي يغضب ويغرد على منصة “إكس”، ويغير القناة إذا لم يكن منظر الدم كافيا لإعجابه.
لكن ببلاهتنا السياسية المعهودة راهنا ان المسيحيين لن يتم المس بهم… “لهم حماية غربية” قلنا لبعضنا البعض…وقلنا أيضا: “لهم عرابون في الفاتيكان، وسفراء في باريس، وممثلون في الكونغرس الأميركي”… يا لحظهم، يا لامتيازهم الوراثي في منطقة لا ترحم احد.
لكن في هذا الشرق الملعون، لا احد محمي، ولا امتياز افضل من ان يتم قتل (المسيحي) في ظهيرة أحد مشمس، وهو في أبهى حلته، يهمس بصلواته من أجل السلام… فيم تفجيره مع السلام، وبالطريقة ذاتها.
يا لِحَظِهِ… لم يَمُت وهو خائف او يركض ليختبئ كعلوي في الساحل، ولا احترق وهو جائع، يحلم بلقمة خبز كطفل في غزة. مات نظيفا، محترما، ببطاقة هوية مسيحية، في مكان مقدّس.
نعم، يا لحسن حظه … في قاموس الموت في هذا الشرق، يُعتَبر موت المسيحي امتياز، على الأقل، سيُذكر اسمه في الاخبار… وقد تُعلن الحكومة الحداد وتُنكس الأعلام، تلك الأعلام المنكسة أساسا منذ زمن طويل.
نعم، لحظة المسيحي أفضل … موته هو الامتياز الوحيد الباقي للأقليات.
حقا من سيحمي سوريا… إذا كان مار إلياس نفسه لم يُسلم من الحزام الناسف؟ إذا كان القديس يتم استهدافه…والمذبح يتم تفجيره، والمصلون يُحصَون بالأشلاء؟ سلام ٌعلى مار إلياس، وسلام على الشهداء الذين سقطوا وهم يرفعون قلوبهم … وسلام على من بقي، يشعل شمعة ويقاوم العتمة. سلام على من يتوضأ بالنور، وينتظر العدالة والحق.
سيعود الوطن…يوما،
وستنهض سوريا على رغم الموت المتكرر… لأن كل من مات بقي فيها… الفناء لا يتوقف تلقائيا، والروح قد تستيقظ من غيبوبتها ببطء، بتلعثم، بوجه شاحب بعض الشئ… لكنها ستستيقظ.
هكذا ستنهض سوريا وتضحك بأسنان مكسورة ومزاج سيئ، وتبصق في وجه من قالوا لها: انتهيت.
*كاتبة واكاديمية وباحثة سورية – باريس

عن اليمن الحر الاخباري

شاهد أيضاً

نزع السلاح والتوازنات الجديدة في قلب المعركة…!

زياد فرحان المجالي* مع تصاعد الحرب على غزة ودخولها شهرها الـ21، تتكثّف الضغوط الدولية للتوصل …