د. حامد أبو العز*
منذ تأسيس الكيان الصهيوني، لم يكن الاحتلال مجرد حدث عابر في تاريخ المنطقة، بل مشروع استراتيجي طويل النفس يقوم على مفهوم التوسع، ينهل من نصوص توراتية مؤدلجة ومحرفة، ويتغذى على منطق القوة وتفكيك المحيط الجغرافي المحيط به. شعار “من النيل إلى الفرات” لم يكن شعاراً دعائياً في أروقة المتطرفين فحسب، بل أساساً بنيوياً تتقاطع حوله العقيدة العسكرية والدبلوماسية والسياسات الاقتصادية للكيان الصهيوني منذ ولادته.
في سفر التكوين (15:18)، تُمنح أرض من “نهر مصر إلى نهر الفرات” لنسل إبراهيم، حسب الرواية التوراتية، ما يمثل المرجعية الأساس لذهنية الاحتلال والتوسع. هذا النص، بقدر ما هو ديني، فإنه أيضاً ميثاق جيوسياسي بالنسبة للقيادات الصهيونية. تيودور هرتزل، الأب المؤسس للحركة الصهيونية، عبّر في مذكراته عن حدود المشروع الذي يحلم به والذي يضم فلسطين، سيناء، مصر، العراق، سوريا، ولبنان. بل إن تصريحات مسؤولين معاصرين مثل الوزير الإسرائيلي سموتريتش خلال حرب غزة 2023، التي دعا فيها صراحة إلى ضم إسرائيل كل من الأردن والسعودية ومصر والعراق وسوريا ولبنان، تكشف بوضوح أن هذا الحلم التوسعي لا يزال حياً ومتجذراً في استراتيجية الكيان.
لكن في مقابل هذا المشروع التوسعي، كانت المنطقة العربية، وعلى مدى أكثر من سبعة عقود، تتخبط بين المقاومة والهزيمة، وبين الخطاب العاطفي والتخاذل العملي. فقد دخلت الجيوش العربية حروباً عديدة منذ 1948 لاستعادة الكرامة المهدورة والأرض المحتلة، لكنها خرجت غالباً أكثر ضعفاً وتفككاً. الهزيمة المذلة في حرب 1967 كانت لحظة مفصلية، ليس فقط لفقدان أراضٍ جديدة مثل الجولان وسيناء والضفة الغربية، بل لأنها مثلت انهياراً معنوياً ونفسياً دفع كثيراً من الأنظمة إلى التكيف مع الوجود الصهيوني كأمر واقع.
في ظل هذا المشهد، بدا أن الكيان الصهيوني في طريقه لتحقيق مشروعه بالكامل، مدعوماً بغطرسة القوة والضعف العربي، إلى أن حدث التحول الجوهري عام 1979 بقيام الجمهورية الإسلامية في إيران. لم تكن إيران فقط ثورة ضد النظام الشاهنشاهي، بل كانت إعادة تشكيل لمحور الصراع في المنطقة. لأول مرة منذ عقود، برز طرف إقليمي يتبنى صراحة رؤية مناقضة لوجود الكيان الصهيوني برمته، لا يساوم ولا يهادن.
قامت إيران بتبديل قواعد اللعبة، من خلال دعم مباشر لفصائل المقاومة في لبنان وفلسطين، وبالتحالف العميق مع سوريا، وبالدخول الميداني في حروب متعددة كسرت العمق الاستراتيجي للمشروع الصهيوني. لقد فشلت إسرائيل في احتلال بيروت نهائياً، وفشلت في تركيع غزة، وفشلت في القضاء على حزب الله. وكل هذه الإخفاقات لم تكن سوى نتائج مباشرة لتغيّر التوازن الإقليمي بفضل تدخل إيران.
إن أهمية إيران اليوم لم تعد محصورة في الدفاع عن فلسطين، بل تجاوزت ذلك إلى حماية الاستقلال الجيوسياسي للمنطقة. في سوريا بعد 2012 قاومت إيران مشروع داعش وغيرها من الجماعات المدعومة غربياً وإسرائيلياً. في العراق، دعمت استقرار بغداد بعد سقوط نظام صدام ومحاولات تقسيم البلد. وفي لبنان، حافظت على معادلة ردع متينة أجهضت أي عدوان شامل على البلاد.
ما ينبغي فهمه بعمق هو أن إيران تحوّلت إلى الحاجز الأخير أمام اكتمال مشروع “إسرائيل الكبرى”. أي تراجع في قوة إيران، أو حدوث خرق أمني كبير فيها، لا يعني فقط انتكاسة داخلية لها، بل انهيار شامل لنظام الردع الإقليمي بأكمله. وهذا هو جوهر المعادلة التي يرفض بعض العرب استيعابها.
رغم ما قدمته إيران من دعم مباشر وغير مباشر لصمود المنطقة في وجه المشروع الصهيوني، ما زالت بعض الأنظمة العربية تتعامل مع إيران بوصفها تهديداً بديلاً، بينما تمد يدها للنظام الإسرائيلي سياسياً وأمنياً واقتصادياً. هذا التحول في المواقف لا يُفسر فقط بقصر النظر السياسي أو بتأثير الضغوط الغربية، بل يتجاوز ذلك ليكشف عن أزمة في فهم طبيعة الصراع الوجودي في المنطقة.
التحالف مع الكيان الصهيوني، سواء كان معلناً أو مستتراً، لا يغيّر شيئاً من حقيقة أن هذا الكيان يرى في جميع الدول العربية، مهما اختلفت مواقفها، مجرد أراضٍ محتملة للسيطرة أو منصات للتوسع. هذا ما قاله صراحة أكثر من مسؤول صهيوني، وما تثبته الوقائع على الأرض مثل اغتيالات داخل العمق العربي، تحليق الطيران الإسرائيلي بحرية في أجواء بعض العواصم، وتحول بعض الدول إلى ممرات للهجوم على إيران أو دعم المشاريع التخريبية فيها.
وبينما كان من المنطقي أن تنطلق مبادرات استراتيجية مشتركة لدعم إيران بوصفها الحاجز الأول في مواجهة التمدد الصهيوني، نجد العكس يحصل، تطبيع، تسليح متبادل، تعاون استخباري، بل وتوفير ممرات للطائرات الإسرائيلية لضرب الداخل الإيراني. هذه ليست مجرد “خيارات سياسية”، بل إسهام مباشر في زعزعة استقرار المنطقة، وتقديم خدمة مجانية للمشروع الصهيوني العابر للحدود. إنّ احتلال الأراضي السورية والوصول إلى 10 كيلومترات من دمشق بعد سقوط بشار الأسد وانسحاب إيران من هذا البلد، فضلاً عن تهديد باكستان كدولة من خارج منطقة الشرق الأوسط، يدل على عزم الصهاينة على التوسع حتى إلى ما هو أبعد من المنطقة.
إنّ المساهمة في إضعاف إيران تعني ببساطة إعطاء الكيان الصهيوني فرصة ذهبية لإعادة بعثرة الجغرافيا السياسية للمنطقة، وفق رؤيته الدينية المتطرفة. تخيلوا سيناريو تتراجع فيه إيران عن دعمها لحزب الله أو حماس، أو تنهار داخلياً نتيجة العقوبات والحروب. في هذه اللحظة، من يردع إسرائيل عن التوسع نحو لبنان؟ من يمنعها من استغلال حالة الفوضى في العراق؟ من يعيد التوازن إلى غزة في ظل خنق المقاومة؟ لا أحد.
وبالتالي، فإن مصير إيران اليوم مرتبط عضوياً بمصير المنطقة. أمن طهران هو من أمن دمشق، وبقاء الجمهورية الإسلامية يعني بقاء معادلة الردع في بيروت، ووجود كتلة مقاومة فاعلة في غزة. ومن هذا المنطلق، لا ينبغي التفكير في “التحالف مع إيران” بوصفه تقاطع مصالح مؤقت، بل كضرورة استراتيجية لبقاء المنطقة ذاتها.
ومن المهم التنبيه إلى أن من يفتح الأبواب أمام الكيان الصهيوني، سواء بتطبيع العلاقات أو بإتاحة المجال الجوي أو حتى بالصمت، لا يقدم تنازلات ظرفية فحسب، بل يشترك عملياً في تدمير الحاضر والمستقبل. لأن المشروع الصهيوني لا يعترف بالحدود، ولا بالشراكات، بل فقط بمنطق “الهيمنة الكاملة”.
إيران، بخطابها وسلوكها واستراتيجيتها، تمثل حالياً الجدار الأخير الذي يقف بوجه طوفان التوسع الصهيوني. وإضعاف هذا الجدار، من أي طرف كان، هو بمثابة نزع الحصن الأخير لكل شعوب الشرق الأوسط. من هنا، فإن الموقف العقلاني والمسؤول والضروري لكل دولة في المنطقة، سواء كانت عربية أو غير عربية، يجب أن يكون واضحاً وهو وقف أي شكل من أشكال التعاون مع الكيان الصهيوني، والتوجه نحو دعم قوة واستقرار إيران، ليس من أجل طهران فقط، بل من أجل بقاء واستقلال وسيادة الجميع.
إنها معركة وجود لا مصالح. ومن لا يفهم ذلك اليوم، سيفهمه غداً حين تصبح عواصمه تحت التهديد، ولكن بعد فوات الأوان.
*كاتب فلسطيني
