السبت , ديسمبر 13 2025
الرئيسية / اراء / الجيل التائه بين الصدمة الفلسطينية والخذلان العربي!

الجيل التائه بين الصدمة الفلسطينية والخذلان العربي!

هند عمر*

في زمنٍ تتسارع فيه الأحداث وتتآكل فيه القيم، يقف الجيل العربي والفلسطيني الشاب على حافة تيهٍ وجودي، تتنازعه صدمتان: صدمة الاحتلال المتواصلة، وصدمة الخذلان العربي المزمن. هذا الجيل، الذي لم يعش النكبة ولا النكسة، وُلد محمّلًا بثقل ذاكرة جماعية مثقلة بالمجازر، والشتات، والحصار، والخذلان المتكرر. لم يشهد الاجتياحات ولا المفاوضات، لكنه يعيش تبعاتها النفسية والسياسية كل يوم، إذ إن المأساة الفلسطينية لم تعد مجرد ملف سياسي أو تاريخي، بل تحوّلت إلى حالة شعورية ممتدة، تطبع وعي الإنسان العربي منذ طفولته، وتعيد تشكيل علاقته مع ذاته وأمته والعالم من حوله.
هذا الجيل، الذي تربى على خطاب التضامن وشعارات القومية، سرعان ما اصطدم بواقع سياسي مغاير. وجد نفسه محاطًا بمواقف رسمية عربية لا تتجاوز الإدانة اللفظية، بل في كثير من الأحيان تسهم بشكل مباشر أو غير مباشر في تهميش القضية أو تطبيع العلاقات مع من يحتلها. كل ذلك ولّد لديه شرخًا داخليًا عميقًا: كيف يتصالح مع ما تعلّمه عن العدالة والحق، في حين يرى بأمّ عينه غياب العدالة وخذلان الحق؟ كيف يواصل الإيمان بفلسطين وهو يرى من يفترض أنهم “أشقاء” يتخلون عنها؟
لكن الأخطر من هذا كله، هو الأثر النفسي العميق الذي تُخلّفه هذه الازدواجية وهذا العجز المزمن. فمن الناحية النفسية، نحن لا نتحدث عن صدمة فردية عابرة، بل عن صدمة مركّبة ومستمرة، تُصنّف علميًا تحت مفهوم “اضطراب ما بعد الصدمة المركّب” (Complex PTSD). إنها صدمة تنمو بصمت داخل الأفراد، لا بفعل حدث واحد، بل بسبب تراكمات طويلة من العنف، والخيانة، وفقدان الأمان، والخذلان الاجتماعي والسياسي. في المجتمعات المتأثرة بالنزاع، خاصة تلك التي تفتقر لبرامج الدعم النفسي المستدام، تتجلى هذه الآثار في سلوكيات يومية مثل الانكفاء، التبلّد العاطفي، القلق المزمن، فقدان الانتماء، أو التطرّف والانفجار السلوكي غير المفسَّر.
ومن موقع عملي كمرشدة نفسية وتربوية، أرى بشكل مباشر كيف يحمل الأطفال والمراهقون الفلسطينيون والعرب آثار هذا الخلل في وجدانهم المدرسي والأسري والاجتماعي. تتكرّر لدى الكثيرين حالات فقدان الدافعية، والشعور بالعجز، وفقدان المعنى، وعدم الثقة بمحيطهم أو بمستقبلهم. وتزداد هذه الأعراض تعقيدًا حين يُحاصر هذا الجيل نفسيًا في بيئة لا تمنحه أدوات التعبير أو العلاج، بل تطلب منه الصمت أو التكيّف مع القهر وكأنه “وضع طبيعي”. وهنا، يصبح الإرشاد النفسي والتربوي ضرورة لا يمكن تجاهلها، لأن حماية الجيل لا تتعلق فقط بحمايته من الرصاص، بل بحمايته من الانهيار الداخلي الصامت.
ورغم كل هذا الألم، يبقى لافتًا أن هذا الجيل، رغم ضياعه الظاهري، لم يستسلم بالكامل. بل نراه يعيد اختراع المقاومة من جديد: لا فقط من خلال الحجارة أو البندقية، بل عبر الكلمة، والموسيقى، والمسرح، والأدب، والمرافعة القانونية، والظهور المؤثر في المنصات العالمية. إنه جيل يرفض أن يكون ضحية صامتة، لكنه أيضًا لا يعرف إلى من يتجه. بين وطن مغتصب وأمة متفرقة، يحاول أن يصوغ لنفسه معنى جديدًا للكرامة والانتماء.
إن خذلان هذا الجيل لا يُمحى بالمبادرات الدبلوماسية ولا بالتصريحات الموسمية، بل يحتاج إلى مراجعة أخلاقية شاملة للمنظومة السياسية والثقافية العربية. هذا الجيل لا يبحث فقط عن وطن على الخريطة، بل عن معنى واضح للحق، عن سند روحي ومعنوي، عن خطاب صادق يعترف بألمه ولا يساوم عليه. لأن من يتربى على الخيانة يفقد الثقة، ومن يعيش في ظل الإنكار يصعب عليه بناء أمل حقيقي.

وفي النهاية، فإن جيلًا تربى بين وجع التاريخ وحصار الواقع، يحتاج منا لا إلى الشفقة، بل إلى المساحة، والصدق، والدعم النفسي المستدام. يحتاج إلى من يعترف بوجعه، دون أن يُبرّر له أو يطلب منه التكيّف. فتيه هذا الجيل ليس ضعفًا، بل صرخة هوية معلّقة تبحث عن معنى وسط غبار الخيانة وركام الحلم.
*كاتبة ومرشدة تربوية ونفسية اردنية

عن اليمن الحر الاخباري

شاهد أيضاً

تحولات استراتيجية الأمن القومي الأمريكي تجاه إيران!

بروفيسور. عوض سليمية* تميزت الفترة الرئاسية الاولى للرئيس ترامب (2017-2021) بتوترات كبيرة في العلاقة مع …