بقلم /عبدالرحمن الاهنومي
الوفد اليمني المفاوض قادما من جنيف ، بيان الاستقلال الذي أذيع للتو في مدينة عدن جاء تتويجا لنضالات عظيمة ، خاض فيها اليمنيون حرب تحرير طويلة إلى أن أرغموا الاحتلال البريطاني للجلوس على طاولة المفاوضات التي تمخضت في يوم ال 29 من نوفمبر 1967/م ، إلى اتفاق يقضي بمغادرة بريطانيا من اليمن ، وقد وقع الاتفاق ممثل الجبهة القومية حينذاك قحطان محمد الشعبي ، وعن الاحتلال البريطاني لورد أو. بي. شاكلتون ـ وهارولد بيلي ـ عضو الوفد البريطاني في جنيف..انتصرت إرادة الشعب واندحر الاحتلال البريطاني إلى غير رجعة ، أذيع بيان الاستقلال صباحا 30 نوفمبر 1967 ، لقد غادر جنود الاحتلال البريطاني مدينة عدن ، ولقيت 23 سلطنة ومشيخة وإمارة حتفها في ذلك اليوم ، تلك السلطنات والإمارات التي كانت متكأ الاحتلال وحصانه الذي يمتطيه ، لقد استطاع المحتل البريطاني من خلال التجزئة والتفكيك البقاء محتلا لعدن والجنوب اليمني أكثر من مائة عام ، لكنه وفي صباح انتصار الثورة ، قضي بالإعدام على تلك الكيانات وعلت راية الوحدة وإنهاء الإمارات البريطانية.لقد نالت عدن الاستقلال بعد مائة وثمانية وعشرين عاما من الاحتلال البريطاني، لم تكن عدن على طول فترة احتلالها مجرد مدينة محتلة فحسب ، بل كانت من أهم القواعد العسكرية للاحتلال البريطاني ، وفي العام 1960 أصبحت مقرا للقيادة البريطانية في الشرق الأوسط ، لقد جعلها الاحتلال رأس حربته في حماية مستعمراته في كل المنطقة ، ولذا كانت عدن مدججة بالسلاح والجند ، بحلول 1964 كان يوجد في عدن نحو 8000 فرد من القوات العسكرية التابعة للاحتلال ، وأمام تزايد القوات العسكرية المحتلة ، كان سيل الثوار يتعاظم كل يوم ويقوى ويشتد ، حتى أنجزوا استقلالا كاملا دون انتقاص أعلنوه في 30 نوفمبر 1967/م، وفي اليوم نفسه أعلنوا القضاء على المشيخات والإمارات والسلطنات وغيرها من كيانات التجزئة والتفتيت والتمزيق للهوية اليمنية الواحدة ، بعد أن كانت ركيزة الاحتلال في وجوده لأكثر من مائة عام فكفك خلالها البلاد ، وجزأها إلى 24 جزءاً ، فهو يخشى يمنا قويا موحدا ومستقلا ، في المقابل كان الثوار على وعي بهذه الحقائق ، وقد كان توحيد الوطن على رأس أولويات نضالهم ومهامهم الثورية..إن تحرير اليمن يقتضي توحيد هويتها ، ولم شملها في كيان واحد.
جنوبا وشمالا ، واجهت اليمن أرضا وهوية ، أخطر تهديد وجودي، في عقد العشرينيات، فبعد رحيل الأتراك عن الشمال كان مشروع بريطانيا يسير على قدم وساق، لإعادة رسم وتشكيل اليمن، وتحويله ليس إلى يمنات فحسب ، ولكن إلى عشرات السلطنات والمشيخات، وبالتالي عشرات الخرائط والهويات الصغيرة، ضمن وفي إطار مشروع سايكس بيكو ، لكن الدولة في شمال الوطن حنيذاك بقيادة الإمام يحيى تصدت للمشروع البريطاني وأطاحت به، باستعادة تهامة ، والساحل الغربي، من يد الإدريسي ، المدعوم من بريطانيا، وفي الجنوب امتد احتلالها إلى العام 67 لعوامل وأسباب عديدة ، لكنها في نهاية المطاف فشلت وسقط مشروعها أرضا.
ما تزال اليمن تواجه اليوم ذات التحديات والمخاطر ؛ فالاستراتيجية للمحتلين هي نفسها ، التجزئة والتفكيك والتمزيق للهوية ، وعلى ظهر التمزيق والتفتيت وتقسيم اليمن إلى يمنات عبرت مجنزرات ودبابات المحتلين الجدد ، وأخضعت أجزاء واسعة من اليمن لسطوتهم وإرادتهم..وجعلت “عدن” اليوم ترزح تحت احتلال أشد قبحا وفحشا..ورغم ذلك ففي لن يطول الليل وفي نهاية المطاف ستعود عدن وكل اليمن..
وسيسقط مشروع السطو والنهب والاحتلال أرضا من جديد.
لقد خاضت الحركات العمالية والنقابية في البداية سجالات فكرية وسياسية طويلة مع دعاة الجنوب العربي، وترافقت مع نضال يومي من أجل تكريس وتأكيد وتجذير الهوية اليمنية الواحدة، ثم انتقلت إلى مرحلة التمرد والعصيان على الاحتلال ، بدءاً بالدعوات الناجحة للإضرابات التي شلت الحركة التجارية والاقتصادية في مدينة عدن، وأسهمت في تزخيم التحرك الثوري ، إلى التحركات الاحتجاجية التي كانت تمثل مرحلة التعبير والتأكيد الرافض للاحتلال والرافض لتفكيك وتمزيق الهوية اليمنية ، لقد ابتدأ مشروع الثورة في شكل حراك نقابي وعمالي دعا في البداية أولا إلى توحيد الكيانات النقابية والعمالية ، ثم التحم مؤتمر النقابات العمالية الذي تأسس عام 1956، مع الجبهة الوطنية المتحدة التي بدأت الثورة المسلحة من ردفان، في المقابل حاول الاحتلال خلق تضامن مشترك لمحمياته ومشروعه التفكيكي ، بإقامة اتحاد الجنوب الفيدرالي، هادفا منه لتأمين وجوده واستمراريته، غير أنها اصدمت من جديد أمام الهوية اليمنية التي عملت الجبهة والحركات النقابية على تجذيرها وتعزيزها منذ وقت مبكر ، وبها سقطت كل الأجندات الاحتلالية التي حاولت بريطانيا قولبتها ، وتحولت محاولاتها إلى عوامل أججت السخط الشعبي والعمالي أكثر ، وخلقت أفكارا جديدة للمقاومة التي انتقلت من وضعها كمواقفاحتجاج ورفض وتنديد إلى مقاومة ثورية مسلحة انتهت بدحر المحتل وإنهاء وجوده.