د.طارق ليساوي*
مشهد الهروب الكبير يعد وسيلة إحتجاج ينبغي التعاطي معها بأسلوب شمولي، ولا ينبغي أن نعتبر الظاهرة مغربية، بل ظاهرة عربية بل وتشمل معظم بلدان الجنوب التي لازالت تعاني ويلات التدخل الأجنبي و لازالت عاجزة عن إنتاج و إفراز نظم و مؤسسات سياسية قادة على إنجاح عملية التنمية و توسيع خيارات الناس و إقامة الحكم الصالح الذي يوظف قدرات الوطن وموارده لخدمة مصالح عموم الناس.. فالمنطقة و خاصة بعد طوفان الأقصى لا ينتظرها إلا المزيد من العنف و الدمار و التفكك، خاصة بعد تعرية الكيان الصهيوني وكشف عواره وضعفه، وفضح حلفاءه وعملائه ..
طوفان تحرري أكبر وأشمل:
وما نراه من هجمات إرهابية و إبادة جذرية و حرب مفتوحة ضد الإنسانية ، و انكشاف حقيقة المنتظم الدولي و القوانين الدولية والمنظومة الأممية والنظم الغربية وقيمها “المغشوشة” حول حقوق الإنسان و غيرها من الشعارات التي أسقطتها وفضحتها دولة الإرهاب الصهيوني.. كل هذه الأحداث المتتالية لن تمر بسلام ومن مخرجاتها المستقبلية موجة طوفان تحرري أكبر وأشمل ستمتد أثاره و شرارته لمعظم بلدان الإقليم ، فدماء غزة و تواطؤ النظم العربية و دعمها في السر و العلم لجرائم الحلف الصهيو-صليبي، سيقود بإتجاه تغدية و شحن وعاء الغضب الشعبي العام الذي تولد نتيجة لحالة العجز واليأس، وأيضا نتيجة لعجز كثير من النظم السياسية العربية عن توفير الحد الأدنى من العيش الكريم لعموم مواطنيها، ومشهد الهروب الكبير مؤشر على خطورة و تأزم الوضع العام و أن سيكولوجية الجماهير مؤهلة للإنفجار.. وهنا تحضرني مقولة رائعة للشيخ محمد الغزالي رحمه الله: “إن زوال إسرائيل قد يسبقه زوال أنظمة عربية عاشت تضحك على شعوبها، ودمار مجتمعات عربية فرضت على نفسها الوهم والوهن، قبل أن يستذلها العم أو الخال، وقبل أن ينال من شرفها غريب: “إنه لا شيء ينال من مناعة البلاد، وينتقص من قدرتها على المقاومة الرائعة، كفساد النفوس والأوضاع، وضياع مظاهر العدالة، واختلال موازين الاقتصاد، وانقسام الشعب إلى طوائف، أكثرها مُضيع منهوك، وأقلها يمرح في نعيم الملوك..”
تدوينة زياش:
وعلاقة بجرائم الاحتلال الصهيوني، سأنتقل بالقارئ الكريم إلى تدوينة للاعب المنتخب المغربي “حكيم زياش” الذي كتب عبر منصة “إنستغرام”: “لنوضح شيئًا واحدًا! اللعنة على إسرائيل، وكلّ دولة أخرى تدعم هذا النوع من السلوك”، كما هاجم موقف الحكومة المغربية ” رسالتي الأخيرة كانت أيضًا لحكومة بلدنا التي تدعم الإبادة الجماعية، وجميع الدول الأخرى التي تدعم ذلك. عارٌ عليكم. لقد طفح الكيل”…و قد حذف اللاعب المغربي بعد ساعات التدوينة الثانية، مكتفيًا بالأولى فقط، بعدما أثار موجة من التفاعل، في الوقت الذي تساءلت عدد من الجماهير المغربية، عن تأثير تدوينة قائد “أسود الأطلس” الثانية على مشواره رفقة المنتخب المغربي.
كلمة الحق صعبة و مكلفة:
ورغم سحبه وحذفه للتدوينة في وقت لا حق، إلا أنه عبر عن موقف مشرفو هو ذات الموقف الذي عبر عنه ملايين المغاربة و الذين خرجوا للشوارع منذ لحظة الطوفان بمختلف مدن المملكة ، و لذلك حظي موقف “زياش ” بإشادة واسعة من الشارع المغربي، حيث أعادت الجماهير المغربية نشر تدوينة “زياش” مع التنويه بموقف اللاعب الشهم و النبيل، و الذي أظهر من مناسبة دعمه للشعب الفلسطيني واستنكار العدوان الإسرائيلي.. فهل يا ترى سنراه في المباريات القادمة ضمن تشكيلة اسود الاطلس ؟ !
و لعل الحملة العلنية و الغير مرئية التي تعرض لها اللاعب بعد نشر تدوينته ، تعطينا صورة عامة عن طبيعة و ماهية الضغوط التي تعرض لها اللاعب و دفعته لسحب تدوينته، و في ذلك تأكيد على أن قول كلمة الحق صعبة و مكلفة و لا تتاح إلا للشرفاء و للرجال حقا و حقيقة ، اما الجبناء فيتأرجح موقفهم بين الصمت القاتل أو السير في ركب الأقوى ، أو الهجوم على الأحرار و الشرفاء من منطلق ” تود العاهرة لو كل النساء مثلها ” .
اختراق حساب زياش:
و بعد هذه التدوينة خرج من يروج لفرضية إختراق حساب زياش ، و لعل هذا الموقف يدفعني إلى التساؤل هل ما قام به زياش جرم او عيب ؟!
أيها السادة، طيلة الشهور الماضية شهدنا و سجلنا مشاهير و قامات سياسية و رياضية و فكرية و جامعية و فنية في امريكا و العالم الغربي و العربي و في الشرق و الغرب أعلنوا تضامنهم مع غزة و انتقدوا حكوماتهم و تظاهروا على أرض الواقع، و لم يخرج من يقول بان حساب هؤلاء تم اختراقه..
متصـهينين أكثر من الصهـاينة:
عجبا لبعض الناس !! يصورون الحق باطلا و الباطل حقا و العيب شرفا و الشرف عيبا ..لا تكونوا “ملكيين اكثر من الملك” و “متصـهينين اكثر من الصهـاينة “، إذا كنت عاجزا عن قول الحق و لا تملك ما يكفي من الشجاعة فعلى الاقل أصمت و لا تدافع عن امر لا ناقة لك فيه و لا جمل ، ما قاله اللاعب “حكيم زياش” و سحبه و هو حر في ذلك، ليس رأي أو وجهة نظر و إنما حقيقة قائمة باعتراف دولي و جرائم إبادة و حرب ضد الإنسـانية بالبث الحي و على المباشر ، جرائم يرتكبها الحلف الصهـيو-صليبي بدعم من بعض النظم و الشعوب العربية فالصمت مشاركة في الجـرم و قبول باستمراره ..
ذهنية إنهزامية:
و على خلفية تعليقي على تدوينة زياش، كتب أحل المتابعين تعليقا أرى من الجيد نشره ، لأن مضمونه يعبر عن ذهنية إنهزامية و فيروس خطير إنتشر في بعض أوساط النخبة السياسة و الثقافية و الإعلامية و مما جاء في التعليق : “تضامن اللاعب زياش مع غزة هو أمر جد عادي ولا يمكن أن نبالغ أن زياش فعل شيء من المعجزة. فكذلك، المغرب بواسطة وزير الخارجية عبر عن استنكاره لأفعال ضد غزة.. ولكن طريقة تعبير زياش، مبالغ فيها لأنه قال “بلدي” ماذا ينتظر السيد زياش أن يفعل المغرب أمام دول عظمى تسير العالم؟ ماذا يريد السيد زياش أن يفعل المغرب أمام اسرائيـل التي تدعمها امريكا وبريطانيا بأسلحة دمار شامل؟ ماذا يريد زياش ان يفعل المغرب أمام دول ممكن أن تمحي نصف الكرة الأرضية إذا تحاربت؟ زياش كان عليه ان يتضامن بصفته ليس أن ينتقد المغرب ويجب ان يعلم هو سوى لاعب فقط، و ليس مسير دولة ولا مسؤول دولة” ..انتهى التعليق، و للأمانة فقد صححت بعض الأخطاء الإملائية حتى تكتمل الصورة..
و صاحب التعليق طرح جملة من الاسئلة، و هذه الاسئلة مشروعة و تعبر عن ذهنية تسيطر على غالبية النظم العربية و النخب المنهزمة و المستسلمة، لا أحد يطلب من المغرب أو غيره الدخول في حرب نُصرة لغزة ، نحن نعلم أن مثل هذا المطلب غير واقعي في ظل الوضع الراهن، لكن لا ينبغي أن نغذي حالة الانهزامية بدعوى موازين القوى ، لان هذا الإدعاء لا يعبر عن جوهر الحقيقة ..
حرب عالمية على غزة و حلفاءها:
فالإرادة الصلبة قادرة على هزيمة أعتى الأسلحة ، فغزة المحاصرة منذ 2006 برا و بحرا وجوا هي التي تواجه الحلف الصهيو-صليبي الذي يملك من أسلحة الدمار ما يمكنه من تدمير نصف الكرة الأرضية، هذه القوة التدميرية المفرطة و المتحررة من كل القيود و الأخلاق و الضوابط ، عجزت عن فرض الاستسلام على غزة و مقـاومتـها الباسلة، و الحرب تدخل عامها الأول و لم ترفع غزة الراية البيضاء ، هذا علما ان الحـرب ليست مع الكـيان المـجرم و إنما مع حلفاء إسـرائيــل و داعميها في الغرب و الشرق، المقاومة في غزة في قلب حرب عالمية حرب بأعثى الأسلحة و أكثرها فتكا و هذا العنصر الظاهر من الحرب ، لكن هناك حرب إستخباراتية قذرة أخطر و أكبر، و ما حدث في لبنان مؤشر على هذه الحرب، فغزة و معها المقاومة اللبنانية و اليمن الشريف، تحارب العالم و لم تنهزم بعد، و لا بد ان نميز بين الهدم و التدمير و الاجـرام و إرهـاب المحـتل و الهزيمة و النصر ، فإلى حدود الساعة لا زالت المقاومة الفلسطينية هي سيدة الميدان و هي المتحكمة في مجريات الحرب و السلم ..
وبالرغم من حجم الدمار و الإجرام الصهيوني، و أخره الهجوم الواسع الذي تعرضت له لبنان، و من هذا المنبر نعلن تضامننا مع حزب الله و رجال المقاومة، و نعزي في شهداء الهجوم الإرهابي و الإجرامي و نتمنى الشفاء العاجل للجرحى و المصابين..
أهداف إستراتيجة:
فطوفان الأقصى و صمود المقاومة و تشكل حلف إقليمي مقاوم ، هذه الحزمة من التحولات نجحت في إنجاز جملة من الأهداف الإستراتيجية الأنية و المستقبلية ، و في مقدمتها فضح المطبعين و إيقاف مهزلة القرن ، و إجهاض و فرملة التطبيع مع المملكة العربية السعودية، و ستنتهي هذه الحرب إن شاء الله تعالى بفسخ كل عقود و عهود التطبيع مع الكيان الصهيوني، وفضح كل المؤامرات و الأحلاف الشيطانية الدجالية التي تحاك ضد الأمة و مقدساتها ..و إقامة نظام القرن الجديد و الألفية الجديدة ، نظام عالمي جديد تكون فيه لدولة فلسطين مكانة سامقة في لعبة الشطرنج الدولية ، نظام عالمي جديد ستزول فيه دولة الكيان الصهيوني ، أو على أقل تقدير سينزع عنها رداء الهيمنة و القوة التي لا تقهر، لتعود مجرد كيتو لليهود تحت سيادة دولة فلسطين المحررة ..
قمة جبل الجليد:
ما لا يعلمه الكثير من المتصهينين أن غزة قمة جبل الجليد و بؤرة التدمير و الإبادة الجذربة، و رأس الحربة في مواجهة ومقاومة مشروع دجالي يتم الإعداد له منذ عقود، و المنطقة العربية و الإسلامية بشكل عام في قلب هذا المشهد الإجرامي و المغرب ضمن هذا المخطط الأسود ، و لعل الرفض الشعبي للتطبيع و التغلل الصهيوني بالمغرب ، مؤشر على إدراك المغاربة و القوى الحية لمخاطر الهرولة بإتجاه التطبيع مع كيان سرطاني إجرامي ، و الإختراق الذي حصل في لبنان يدفعنا إلى التأكيد على أن تشبيك العلاقات الاقتصادية و التجارية و الفلاحية و الأمنية مع هذا الكيان في خطره على البلاد و العباد ، فهذا الكيان المجرم لا يمكن أن يأتي منه خير أو نفع و الـأيام بيننا..
مخطط دموي توسعي:
فالصهاينة يراودهم حلم ثوراتي تلمودي بإحياء مملكة الملك – النبي سليمان عليه الصلاة و السلام، لذلك فالحدود الحقة لصناع الحلم الصهيوني تمتد إلى حدود ” مملكة سليمان” و الغاية التي تحكم العقل الاستراتيجي الصهيوني هو البحث عن هيكل سليمان بل و أسرار و كنوز “نبي الله سليمان” و التي مكنته من تسخير شياطين الجن و الإنس لخدمة مشروعه…لكن و بعد قرون من الجهد التنظيري و التحريفي نجحوا إلى –حدما في إقامة وطن لهم- على أرض فلسطين المحتلة، و حدودهم كما يشير علمهم “من البحر إلى النهر”، و سعيهم لإختراق المنطقة العربية و تفتيتها هدف استراتيجي للكيان الصهيوني و الغاية تحقيق الحلم الصهيوني…
مقاومة التطبيع واجب الوقت:
و تبعا لذلك، لا يسعنا إلا التأكيد على أن دعم المقاومة الفلسطينية و كل من يدور في فلكها و يساندها في معركتها ضد الحلف الصهيو-صليبي ، ضرورة حتمية لحماية أوطاننا و حماية الإنسانية من مشروع دجالي شيطاني يتم تنفيذه حاليا بقوة الحديد و النار، و بسياسات الاستحمار و التضبيع و التشكيك و الإختراق الثقافي و التشكيك في القيم الدينية و الأخلاقية و تغدية الصراعات الطائفية و الإثنية طول الوقت مقاومة ، و من مقومات دعم المقاومة و نصرتها، مقاومة و مناهضة كل جهود التطبيع مع هذا الكيان الغاصب و إدانتها و مقاطعتها بكل الأشكال الممكنة، و لو بالدعاء و الكلمة و ذلك أضعف الإيمان، فالدعاء جند من جنود الله ،والكلمة الصادقة في مثل هذه الظروف أحد من السيف لأننا أمام معركة وعي و فهم و إدراك لحقيقة القضية و أبعادها الدينية و القومية ، فمعركتنا توعية أنفسنا وأبناءنا و زرع حب فلسطين و القدس في قلوبهم، و إعلامهم بأن القدس ستظل عاصمة فلسطين، و فلسطين ستظل أرض عربية إسلامية محتلة من قبل الصهاينة و سيتم تحريرها عندما تخرج الأمة العربية و الإسلامية من تيهها و غيها، و الأقصى سيظل أولى القبلتين و ثالث الحرمين ..
دوام الحال من المحال:
وهو ما عبر عنه القرآن الكريم في صورة سنة كونية عامة، فقال:(وتلك الأيام نداولها بين الناس) (آلعمران:140) و نزلت الأية الكريمة في أعقاب غزوة أحد التي انكسر فيها المسلمون في عصر النبوة، وقدموا فيها سبعين من أغلى شهدائهم، بعد انتصار مبين قبلها في غزوة بدر، هذه الغزوة المباركة والانتصار العظيم سماه القران الكريم يومها بيوم الفرقان قال تعالى: (يوم الفرقان يوم التقى الجمعان)(الأنفال: 41)، فصعود الكيان الصهيوني وتعاليه نابع من ضعفنا وإبتعادنا عن ديننا وحقائق التاريخ والجغرافيا وقوانين الاستخلاف والعمران… وفي الختام، تحية إجلال وتقدير لغزة ومقاومتها الباسلة وشعبها الجبار، والرحمة والمغفرة لشهداء العدوان الصهيوني الغاشم على غزة والضفة ولبنان، والخزي والعار للمتصهينين العرب .. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون..
*كاتب وأستاذ جامعي مغربي
شاهد أيضاً
كشف المستور في كتاب الحرب المنشور!
محمد عزت الشريف* لم يكن طوفان الأقصى محضَ صَولةٍ جهادية على طريق تحرير الأقصى وكامل …