ميشيل شحادة
مع اقتراب الانتخابات الأمريكية، تتجه أنظار العالم بأسره نحو قلب الإمبراطورية التي ما زال تأثيرها يطال كل زاوية في الكرة الأرضية. فكل تغيير يحدث هناك يترك أثره العميق على الساحة الدولية بأكملها. وفي ظل الاهتمام الكبير الذي توليه وسائل الإعلام العربية لهذه الانتخابات، وجدت أن من الضروري تجاوز التفاصيل السطحية المعتادة، والتعمق في جوهر ما يجري داخل المجتمع الأمريكي. فهذه الانتخابات هي انعكاس لصراع أيديولوجي عميق يحرك مسارها ويشكل ملامح المستقبل.
يتصادم تياران أيديولوجيان داخل الدولة العميقة في الولايات المتحدة، تلك المؤسسات الخفية من عسكرية واستخباراتية وسياسية وبيروقراطية واقتصادية، التي تدير دفة الدولة. يمثل هذان التياران رؤيتين متناقضتين لمستقبل الولايات المتحدة ودورها العالمي: التيار “التقليدي” المتمثل في “النخبة الليبرالية الدولية (المحافظين الجدد)،” والتيار “الشعبوي القومي” الذي تتجلى ملامحه في “الترامبية والانعزالية.” هذا الصراع يعكس توتراً عميقاً حول كيفية تعامل الولايات المتحدة مع التغيرات الجذرية في النظام العالمي، لا سيما في ظل تصاعد نفوذ قوى عظمى مثل الصين وروسيا، إلى جانب التحديات الداخلية المتزايدة كالانقسام السياسي والاقتصادي.
يعتقد “التيار التقليدي” أن الولايات المتحدة يجب أن تبقى القوة المهيمنة عالمياً عبر استمرار تدخلاتها العسكرية والسياسية حول العالم، وان الهيمنة الأمريكية هي “الضامن” لاستقرار النظام الاقتصادي الليبرالي العالمي. لذا، فانه يدعم التدخلات العسكرية في الشرق الأوسط، توسيع حلف الناتو، والدفاع عن الكيان الصهيوني، مع تركيز خاص على احتواء القوى المنافسة الرئيسية مثل الصين وروسيا، التي تعتبرهما تهديدا رئيسيا لهيمنة الولايات المتحدة عالميا. تدعو هذه الفئة إلى استخدام المؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة والبنك الدولي من موقع الهيمنة والسيطرة داخل هذه المنظمات.
أما التيار “الشعبوي القومي”، فيصب تركيزه على الشؤون الداخلية أكثر من التدخلات الخارجية، إذ يرى أن المغامرات العسكرية في الخارج وسياسة “هندسة الأمم” قد أضرت بالمصالح الأمريكية واستنزفت مواردها المالية. فيدعو إلى تقليص الإنفاق العسكري الخارجي وتوجيه الاهتمام نحو تحسين البنية التحتية داخل الولايات المتحدة، وتعزيز فرص العمل عبر تبني سياسات تجارية أكثر انغلاقاً. كما يعارض الانخراط في المؤسسات الدولية، معتبراً إياها وسيلة للتدخل والهيمنة على الشؤون الداخلية لأمريكا، وأن السيادة الوطنية هي قيمة عليا يجب الحفاظ عليها. ويتبنى هذا التيار موقفاً صارماً تجاه الصين، لكنه أقل تحمساً للدفاع عن أوروبا أو جنوب غرب اسيا مقارنةً بـ “التيار التقليدي.”
ويستمد التيار “التقليدي” افكاره من مجموعة من المفكرين والفلاسفة الذين شكلوا السياسة الخارجية الأمريكية خلال العقود الماضية. ويعتبر هنري كيسنجر، وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي الأسبق، أحد أبرز هؤلاء المنظرين، إذ كان من دعاة استخدام القوة الأمريكية بشكل فعال لتحقيق توازن قوى عالمي ومنع الهيمنة السوفيتية، كما كان من المدافعين عن علاقات عضوية مع “إسرائيل.” وفرانسيس فوكوياما، المنظر السياسي الذي قدم أطروحته حول “نهاية التاريخ”، حيث رأى أن الديمقراطية الليبرالية هي الشكل النهائي للحكم وأن العولمة تمثل مستقبل العالم. ومن بين المنظرين البارزين أيضاً “زبيجنيو بريجنسكي،” مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس كارتر، والذي كان من المدافعين عن سياسة احتواء الاتحاد السوفيتي وتعزيز التحالفات مع الدول الغربية.
في المقابل، يتأثر “التيار الشعبوي القومي” بأفكار مفكرين مثل “بات بوكانان”، الذي انتقد بشدة سياسات العولمة ودعا إلى الانعزالية والاقتصاد القومي. ويعود هذا التيار إلى جذور أقدم في التاريخ الأمريكي، حيث تمثل أفكار الرئيسين الأمريكيين السابقين “توماس جيفرسون” و”أندرو جاكسون” الأساس لهذا النهج. كان “جيفرسون” من الداعين إلى سياسة خارجية حذرة وغير تدخّلية، بينما ركز “جاكسون” على الديمقراطية الشعبية والسيادة الوطنية. كما كان الطيار المشهور “تشارلز ليندبرغ” من أبرز دعاة الانعزالية بعدم الانخراط في الحرب العالمية الثانية والتدخل في الشؤون الاوروبية، وهو موقف يستمر تأثيره في هذا التيار اليوم.
الصراع بين هذين التيارين يتجلى بوضوح في السياسات الاقتصادية والدعم الذي تحظى به كل منهما من الشركات الكبرى. الشركات متعددة الجنسيات، وخاصة في قطاع التكنولوجيا الكبرى مثل “جوجل،” و”آبل،” و”مايكروسوفت،” والمؤسسات المالية كـ “جولدمان ساكس،” و “جي بي مورغان،” تدعم “التيار التقليدي،” بشكل عام حيث تستفيد من سياسات العولمة. اما شركات الصناعات العسكرية مثل “لوكهيد مارتن” و “رايثيون” فتعتمد على التدخلات العسكرية والتوترات العالمية التي يدعمها هذا التيار لتعزيز أرباحها من بيع منتجاتها من آلات القتل والتدمير. في المقابل، يحظى التيار “الشعبوي القومي” بدعم من قطاعات الطاقة التقليدية مثل شركات الفحم والنفط المحلية، التي تستفيد من السياسات القومية التي تدعو إلى زيادة الإنتاج المحلي وتقليل الاعتماد على الواردات الأجنبية.
وتميل الأجهزة الأمنية والعسكرية الأمريكية، مثل البنتاغون ووكالة الاستخبارات المركزية “سي أي ايه” والجهاز البيروقراطي بشكل عام إلى دعم “التيار التقليدي.” حيث تدفع بأن تحافظ الولايات المتحدة على تواجد عسكري قوي مهيمن في العالم لحماية مصالحها الامبريالية. وتتفق هذه المؤسسات مع التيار “التقليدي” في تأييد التدخلات العسكرية في منطقتنا العربية وأوروبا الشرقية، وتدعم التحالفات العسكرية الدولية مثل حلف “الناتو.” وتعارض الأجهزة الأمنية افكار “التيار الشعبوي القومي،” خاصة تلك المتعلقة بالانعزالية وتقليص التدخلات العسكرية الخارجية. فالبنتاغون، على سبيل المثال، انتقد انسحاب الولايات المتحدة المفاجئ من سوريا، معتبراً أن ذلك قد يؤدي إلى فراغ استراتيجي تستفيد منه قوى معادية مثل إيران وروسيا.
اما فيما يتعلق بالكيان الصهيوني، فيتفق التياران على دعمه من زوايا مختلفة. فالتيار “التقليدي” يرى في “إسرائيل” امتداداً عضويا للغرب في الشرق الأوسط، حيث يلعب دعمها دوراً رئيسياً في مواجهة أعداء الولايات المتحدة مثل إيران وقوى المقاومة وحركات التحرر والتغيير في المنطقة. اما التيار “الشعبوي القومي” فيدعم الكيان الصهيوني بدافع داخلي، التحالف مع اليمين المسيحي الإنجيلي، ويدعم “إسرائيل” كوسيلة لبسط سيطرته على المنطقة دون الحاجة إلى تدخلات عسكرية مكلفة. ويميل التيار “الشعبوي القومي” إلى التركيز على المصالح الأمريكية المباشرة ولا يميل الى التدخل العسكري العميق لحماية الكيان الصهيوني.
ويمثل المشرق العربي ساحة صراع رئيسية بين التيارين، فيراه التيار “التقليدي” منطقة ذات أهمية استراتيجية للهيمنة الأمريكية على النظام العالمي، نظرا لاحتياطاته الهائلة من النفط والغاز ولموقعه الوسطي الاستراتيجي بين القارات. كما يرى “التقليديون” أن سيطرة الولايات المتحدة على تدفق الطاقة من جنوب غرب اسيا ضروري لاستقرار هيمنهم على الاقتصاد العالمي، وخاصة الأوروبي الذي من الممكن ان يكون منافسا لهم. ويعتبر ان المنطقة العربية خط المواجهة المباشر لاحتواء النفوذ الإيراني. اما “الشعباويون القوميون” فيرون أنه على الولايات المتحدة أن تقلص من تدخلاتها في المنطقة، وأن تركز على تطوير الإنتاج المحلي للطاقة لتقليل الاعتماد على النفط الأجنبي.
خلال فترة رئاسته الأولى، واجه ترامب صعوبات كبيرة في محاولة السيطرة على الجهاز البيروقراطي الامريكي الضخم، وفشل في تحقيق وعوده المتعلقة بـ “تطهير المستنقع” و”كبح جماح الدولة العميقة.” لقد واجه ترامب مقاومة داخلية قوية من هذه المؤسسات، التي لم تكن متفقة مع نهجه الشعبوي والانعزالي. على سبيل المثال، انتقد البنتاغون وبعض الأجهزة الأمنية سياسات ترامب المتعلقة بسحب القوات الامريكية من سوريا وأفغانستان، ورغبته في الانسحاب من “الناتو،” وكذلك تقليص الالتزامات العسكرية في منطقتنا العربية.
ستحاول الدولة العميقة، عبر استخدام وسائلها المختلفة من مؤسسات سياسية وإعلامية، تقويض حملة “ترامب” الانتخابية، ولكن لا يمكنها التحكم تماماً في النتيجة. فالقوة الحقيقية للدولة العميقة تكمن في قدرتها على التأثير طويل الأمد في السياسات والاستراتيجيات بعد الانتخابات، وليس بالضرورة في إيقاف فوز “ترامب” إذا حصل على دعم شعبي كافٍ.
في الختام، يبقى التساؤل مطروحاً بقوة: هل سيتمكن ترامب من شق طريقه مجدداً إلى البيت الأبيض، أم أن الدولة العميقة ستنجح في كبح جماحه وإجهاض مساعيه؟ ما هو مؤكداً أن الصراع بين تيار “العولمة” والقوى “الشعبوية القومية” لن يتلاشى، بل سيظل مستعراً في قلب الساحة السياسية الأمريكية خلال السنوات المقبلة. وما يزيد من حدة هذا الصراع هو ارتباطه الوثيق بالنتائج الحاسمة لحرب تحرير فلسطين، طوفان الأقصى، التي باتت تشكل نقطة تحول استراتيجية. فمآلات هذه الحرب، إلى جانب حرب أوكرانيا، ستضع أسس النظامين الإقليمي والعالمي الجديدين، وترسم معالم المستقبل.