د.الياس عاقلة*
تُعد منطقة قلب العالم العربي المسماة بمنطقة الشرق الأوسط: من الخليج شرقاً الى البحر الأبيض المتوسط غرباً، ومن العراق وسوريا شمالاً الى بحر العرب جنوباً ، وإضافةً بمصر، أهم منطقةٍ في العالم كله لأنها أكبر جسرٍ تجاري يوصل ثلاث قارات كبيرة ببعضها، آسيا وأوروبا وإفريقيا ، كما أنها من أغنى مناطق العالم بثرواتها الزراعية في الهلال الخصيب ومعادنها ونفطها وغازها الصحراوي والساحلي وطاقاتها الشمسية الصحراوية وإرثها الديني .
لقد أرسلت كل الأمبراطوريات الإستعمارية حملاتٍ عسكرية كثيرة لاحتلال هذا العالم العربي منذ العهود القديمة ، ولا يزالون الى وقتنا الحاضر يسعون بكل قوتهم العسكرية والاقتصادية للسيطرة على هذا القلب المعطي حياةً لكل الأمة العربية . كل هذه الحملات العسكرية واحتلال بعض الأراض العربية ، ولو لفترة قصيرة ، باءت بالفشل والهزيمة لأن الأمة العربية تتمتع بإنتماءٍ قويٍ للوطن وللمجتمع بسبب وحدة اللغة ووحدة الثقافة ووحدة الاقتصاد ووحدة الديانة لأغلبية السكان .
قررت قوى الاستعمار الغربية المتمركزة في بريطانيا والولايات الأميركية أن أفضل طريقة لإستعمار الوطن العربي هي الإبادة الجماعية وتهجير السكان الأصليين تماماً كما فعل هؤلاء المستعمرون الأوروبيون بالشعوب الأميركية الأصلية لبناء ما يُسمى الولايات الأميركية المتحدة . وكما تم تسخير ودفع شعوب أوروبا لإبادة الشعوب الأميركية ولإستعمار كامل القارة بدافع ديني مسيحي نادى بـ “أرض الميعاد الجديدة” ونشر الديانة المسيحية بين كفار أميركا ، تقوم الصهيونية العالمية حالياً باستعمال الديانة “التلمودية” المنادية بـ”إسرائيل الكبرى في أرض الميعاد لشعب الله المختار” لزرع إسرائيل في قلب الوطن العربي ، ولدفع يهود العالم لإبادة الأمة العربية وللسيطرة على منطقة الشرق الأوسط العربي .
بدأت هذه الإبادة والتهجير حتى قبل هزيمة 1948 ما سُمي خطأ بالنكبة ، فالنكبات تسببها كوارث طبيعية بينما جاءت إبادة وتهجير 1948 نتيجة حرب عسكرية . واستمرت عمليات الإبادة والتهجير ضد الفلسطينيين تدريجياً عن طريق سياسات إضطهادٍ وحروبٍ عسكرية إسرائيلية مما أدى الى تهجير الفلسطينيين عدة مرات بدون وازع وبدون دفاع من الحكام العرب ولا من المؤسسات الدولية القانونية والحقوقية .
أدرك فلسطينيوا غزة المسجونين في أكبر سجنٍ في تاريخ الإنسانية أن فلسطين لن تتحرر إلا بيدٍ فلسطينية ، فانتفضوا في السابع من أكتوبر لاختراق حواجز سجنهم الخانق . وقد جاء هذا الاختراق بتساهلٍ إسرائيليٍ مقصود ، إذ كانت كل من القيادات الإسرائيلية والبريطانية والأميركية الإستعمارية بانتظار فرصة كهذه لتدمير كل غزة وتهجير كل الفلسطينيين منها تحت حجج الدفاع عن النفس ضد هولوكوست جديد وضد معاداة السامية .
ولكن بعد خمسة عشر شهراً من قصف غزة المستمر بما يقرب من ثمانين ألف طن من القنابل الأميركية شديدة الإنفجار، عدى عن أسلحة أخرى من بريطانيا وألمانيا وفرنسا وحتى للأسف من بعض الدول العربية، لم تفلح إسرائيل إلا في تهجير عدد قليل من فلسطينيي غزة . ولم تجن إسرائيل والإدارة الأميركية إلا مسيرات غضب شعبية في جميع عواصم العالم تطالب بوقف إطلاق النار وحماية الفلسطينيين وإقامة دولة فلسطينية مستقلة ، كما واجه “نتنياهو” مسيرات احتجاج غاضبة في شوارع المدن الإسرائيلية مطالبين بوقف إطلاق النار واستبدال الأسرى ، وكذلك احتجاجات جنود ورفض الخدمة العسكرية خاصة من الحريديم ، عدى عن هروب ما يقرب من المليون مستوطن خارج إسرائيل ، وخروجٍ كبيرٍ لشركات الإستثمار الكبيرة مما سبب انهيارا كبيرا في الاقتصاد الإسرائيلي فاضطر “نتنياهو” بالموافقة على هدنة 42 يوماً لاستبدال الاسرى من الطرفين .
جاء الرئيس الأميركي الجديد “ترامب” مدعياً أن اتفاقية هدنة وقف إطلاق النار جاءت بسبب ضغوطه الشخصية على إسرائيل . لكن الواقع الذي لا يذكره أحد هو أن الرئيس الأميركي السابق “بايدن” كان قد سهل إرسال القنابل الأميركية الى إسرائيل لدرجة تفريغ جميع التخزينات العسكرية منها بما في ذلك التخزينات الإحتياطية ، ولم تستطع شركات تصنيع هذه القنابل من تصنيعها بالسرعة الكافية لتعويض هذا النقص ، فادعى “بايدن” أنه حظّر مؤقتاً إرسال المزيد من قنابل الـ 2000 رطل ضغطاً على إسرائيل لتسمح بالمعونات الإنسانية بدخول غزة . أما الآن وبعد تصنيع عددٍ كافٍ من هذه القنابل فقد رفع “ترامب” الحظر عن إرسالها لإسرائيل بحجة أن إسرائيل قد دفعت ثمنها سابقاً علماً بأن الدافع الحقيقي لهذه الأثمان هو دافع الضرائب الأميركي .
علماً بأن إسرائيل لم تلتزم أبداً بأي اتفاق لوقف النار، إذ نراها قد خرقت اتفاقية وقف إطلاق النار مع لبنان بـ700 خرق حتى الآن وأنها لا تزال تغتال فلسطينيي غزة ولا تزال تقوم بعمليات تدميرٍ وقتلٍ في الضفة الغربية ، وعلماً بأن إسرائيل لا تهتم حقيقة بأرواح أسراها ، فقد قتلت طائراتها ودباباتها ما يقرب من نصف عدد الأسرى الإسرائيليين في السابع من أكتوبر تحت ما يُسمى بـ”إجراء أو سياسة هانيبعل” ، فقد جيئ بهولاء الإسرائيليين كأداة تكون استهلاكية لاستعمار فلسطين، وعلماً بأن الهدف الرئيسي لوجود إسرائيل هو إبادة وتهجير الفلسطينيين وأن الهجوم على غزة هو جزء من هذه الإبادة للقضاء الكامل على حماس كما يكرر “نتنياهو” والعديد من السياسيين في حكومته ، وعلماً أن شحنات قنابل أميركية جديدة في طريقها الى إسرائيل ، فمن الحكمة والتعقل أن نتوقع استمرار هذه الإبادة في نهاية الـ42 يوم المرحلة الأولى من تبادل الأسرى . وستخرج علينا إسرائيل بمبررات وهمية وتلوم حماس لتستمر في إبادتها للفلسطينيين من جديد .
يجب أن ندرك أن اتفاقية وقف إطلاق النار مجرد هدنة مؤقتة لتبادل الأسرى ، وبعد ذلك سيستمر إطلاق النار بشدة أعظم . لقد وعد “نتنياهو” الإسرائيليين بإن الإبادة ستستمر بعد هذه الهدنة من أجل القضاء الكامل على حماس . وكذلك شرح رئيس الأركان الإسرائيلي “يوسي فوكس” بأن اتفاقية وقف إطلاق النار لن توصل إسرائيل الى هدفها الرئيسي بإنهاء حماس . وقد أكد هذه الحقيقة مستشار الأمن القومي الأميركي “مايك والتز”. أما الرئيس “ترامب” المدعي بتحقيق وقف إطلاق النار فقد أعرب عن تشككه باستمرار هذه الهدنة لمدة طويلة .
خطة تهجير الفلسطينيين ولو بالقوة قرار أميركي لا رجعة فيه ، فقد كرر “ترامب” بشكل واضح لا لُبس فيه أن الاحتلال الإسرائيلي “سيسلم” قطاع غزة للولايات الأميركية بعد القضاء على حماس لكي تأخذ زمام المبادرة لـ”تنظيف” غزة وإخلائها من السكان “مؤقتاً أو نهائياً” لإعادة إعمارها بأعظم وأروع المشاريع لتحويلها الى ريفييرا جميلة . وفي المقابل يسمح “ترامب” لإسرائيل ، البلد الصغيرة بحجم رأس القلم في الشرق الأوسط الواسع ، أن تتوسع قليلاً باحتلال الضفة الغربية بعد تهجير سكانها الى الاردن .
والقصد الرئيسي من “إعادة إعمار” غزة هو قيام الشركات الأميركية باستخراج غاز ساحل البحر الأبيض . وقد بدأ الرئيس الأميركي السابق “جو بايدن” بهذا المشروع حينما زود إسرائيل بجميع الأسلحة والقنابل الكبيرة من أجل تدمير غزة وإبادة وتهجير سكانها ، وها قد جاء الرئيس الأميركي الجديد – صاحب الـ 43 جناية قضائية – لإكمال هذا المشروع آمراً مصر والأردن والمغرب باستقبال المهجَّرين الفلسطينيين ، ومرسلا لإسرائيل المزيد من القنابل الكبيرة لإكمال تدمير غزة وبعض مدن الضفة الغربية .
في الثالث من شباط/فبراير بالتزامن مع زيارة “نتنياهو” لواشنطن أعلن “ترامب” أنه يريد أن تستقبل الأردن ومصر فلسطينيي غزة لأنه لا بديل لهم عن مغادرة المنطقة التي أصبحت ركاماً متجاهلاً تماماً أن القنابل الأميركية كانت السبب في هذا الركام ، كما أصدر تعليماته الى الكونغرس للموافقة على إرسال معدات عسكرية لإسرائيل بقيمة 7.4 مليار دولار تشمل 4700 قنبلة زنة 1000 رطل (نصف طن) ، وجرافات مدرعة ، وصواريخ “هيلفاير” بقيمة 660 مليون دولار . وقد تم الإعلان في السابع من هذه الشهر على موافقة الكونغرس على هذه الصفقة .
لن نرى هدوءاً ووقفاً دائماً لإطلاق النار في غزة بعد الـ42 يوم من تبادل الأسرى ، بل المزيد من الدمار وإبادة من تبقى من فلسطينيي غزة كما ستزداد عمليات الإبادة في الضفة الغربية التي نراها حالياً في مخيمات جنين وطولكرم ونابلس وغيرهم من المدن .
لن تتوقف حملات الإستعمار الغربية لكل دول العالم العربي إلا حين تتوحد الأمة العربية جمعاء من الخليج الى المحيط في دولة واحدة ، فالإتحاد قوة .
*كاتب فلسطيني
