د.رجب السقيري*
عندما كنت سفيراً في الصين (1999-2004) وذات يوم خلال السنوات الأولى من الألفية الثالثة ، أي قبل نحوعقدين من الزمان ، استدعتني وزارة الخارجية الصينية على عجل وأبلغتني عن استيائها لأنه قد نما إلى علمها بأن رئيس تايوان سيتوقف في مطار عمان في طريقه إلى إحدى الدول الأفريقية . ولولا أني كنت على علمٍ بالحساسية المفرطة لدى الحكومة الصينية من أي تعامل على المستوى السياسي بين تايوان وأية دولة لها علاقات دبلوماسية مع جمهورية الصين الشعبية ، لولا ذلك لفوجئت بالإستدعاء وبما ورد في حديث المسؤول الصيني الذي قابلته. لكن كان سلفي السفير سمير عيسى الناعوري ، أطال الله عمره ، الذي عمل قبلي في بكين ، قد روى لي قبل تسلمي مهام عملي في العاصمة الصينية قصصاً مشابهة عن استدعائه عدة مرات في مناسباتٍ مماثلة إلى الخارجية الصينية لإبلاغه بعدم ارتياح الصين لأي تعامل على المستوى السياسي مع أي مسؤول حكومي تايواني ، علماً بأن الصين لا تمانع في التعاملات الاقتصادية والتجارية مع تايوان ، خاصةً وأن الصين نفسها تتعامل تجارياً مع تايوان ، بل إن الأخيرة هي سادس شريك تجاري للصين في العالم . قمت طبعاً بإبلاغ وزارة الخارجية الأردنية بذلك ثم بحثت الأمر مع وزارة التخطيط ، التي كانت تتولى شؤون العلاقات الاقتصادية والتجارية مع تايوان ، فتبين لي أن توقف رئيس تايوان المزمع في مطار عمان كان سيتم لأسباب فنية بحتة وبالتحديد لإعادة ملء خزان طائرته بالوقود ، وأنه لن يتم استقباله رسمياً ولن يجتمع مع أي مسؤول في الحكومة الأردنية ، ومع ذلك تفهمت الحكومة الأردنية الموقف الصيني واتخذت خطوة حكيمة ، بعد أن نقلت إليها ما حدث ، وسحبت موافقتها على توقف الرئيس التايواني في مطار عمان وذلك حرصاً على استمرار العلاقات الطيبة مع بكين ، وهكذا كان .
أهمية تايوان بالنسبة للصين
تذكرت هذه القصة التي تكررت أيضاً مع غيري من السفراء العرب والأجانب في بكين عشرات المرات والتي تشير بما لا يدع مجالًا للشك إلى حساسية الصين البالغة فيما يتعلق بالمسألة التايوانية كما تشير إلى أهمية تايوان بالنسبة للصين ، إذ أن بكين تتوقع من جميع الدول التي ترتبط معها بعلاقات دبلوماسية الالتزام بسياسة الصين الواحدة التي تعتبر تايوان جزءاً لا يتجزأ من جمهورية الصين الشعبية ، مع أن الصين تبدي نوعًا من المرونة في سبيل إيجاد حل جذري وسلمي لمشكلة الجزيرة التي تعتبرها بكين مقاطعة متمردة وتعتبر أن اعتراف أية دولة باستقلال تايوان أو التعامل معها على المستوى السياسي هو تدخل غير مقبول في الشؤون الداخلية للصين . أما عن المرونة المشار إليها والتي تبديها الصين إزاء الحل النهائي لمشكلة تايوان فتتمثل بقبول الصين بمبدأ “دولة واحدة ونظامين” على غرار الوضع السائد حالياً بالنسبة لهونغ كونغ . وتأكيداً على مرونة الحل الذي تطرحه الصين قامت الأخيرة بإصدار ورقةً بيضاء (White Paper) حول تايوان هي الثالثة من نوعها ولكنها الأولى في عهد الرئيس الحالي “شي جين بينغ” ، وجاء إصدار هذه الورقة مؤخراً كأحد ردود الفعل الصينية السلمية على مسلسل الاستفزازات الأمريكية الأخيرة كما سنبين لاحقاً .
تؤكد ورقة الصين البيضاء أن تايوان جزءٌ لا يتجزأ من الصين ، كما تؤكد على ضرورة إعادة توحيد البلاد سلمياً ، لكنها لا تستبعد الخيار العسكري ، وتلقي الورقة البيضاء باللائمة على القوى الانفصالية في تايوان لسعيها للاستقلال وتشجب أية محاولة للتدخل الخارجي في المسألة التايوانية . كذلك تؤكد الورقة أن توحيد البلاد سيتيح لتايوان مجالاً واسعاً للتنمية (الاقتصادية) كما يوفر توحيد البلاد الحماية لحقوق ومصالح التايوانيين ، أخيراً تؤكد الورقة أن التوحيد السلمي للبلاد سيقود نحو السلام في منطقة آسيا والمحيط الهادي (Asia-Pacific Région) ويعتبر دعماً للسلام في العالم .
استفزازات إدارة بايدن للصين
تابعت إدارة جو بايدن الاستفزازات التي بدأتها إدارة ترامب ضد الصين والتي اقتصر معظمها على العلاقات الاقتصادية والتجارية ، بل إن إدارة بايدن قد أضافت خلال السنة ونصف الماضية إلى استفزازات إدارة ترامب للصين ، هذا ما قاله “كيفين راد” رئيس وزراء استراليا السابق وخبير الشؤون الصينية المقيم حالياً في الولايات المتحدة في مقالٍ له نشرته الشهر الماضي مجلة “فورين أفيرز” الأمريكية .
بلغت تلك الاستفزازات أشدها خلال شهر آب (أغسطس) الماضي وخلال الأيام القليلة الماضية من شهر أيلول (سبتمبر) الحالي . ففي الثاني من آب (أغسطس) قامت نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب الأمريكي بزيارة مستفزة إلى تايوان على رأس وفد من الكونغرس ، وقد أسفرت الزيارة عن تصاعد التوتر بين الولايات المتحدة والصين إلى “مستويات غير مسبوقة خلال العقود الثلاثة الماضية” استناداً إلى تقييم مؤسسة كارنيغي الأمريكية ، إذ اجتمعت بيلوسي مع رئيسة تايوان وأدلت بتصريحات خلال الزيارة كان من شأنها قيام الصين بردود فعل ليس أقلها المناورات العسكرية الصينية حول الجزيرة التي تعتبرها الصين متمردة ، تخلل تلك المناورات تحليق أسراب من الطائرات الصينية الحربية فوق المضيق الفاصل بين تايوان والبر الصيني ، وإبحار مكثف لقطعٍ بحرية صينية حول الجزيرة ، إضافة إلى تصريحات حكومية صينية لا تستبعد العمل العسكري لإعادة ضم الجزيرة .
أما في الجانب الدبلوماسي فكانت الورقة البيضاء المشار إليها أعلاه من أهم ما صدر عن الحكومة الصينية من ردود فعل على هذا الصعيد ، سبقها استدعاء السفير الأمريكي في بكين وإبلاغه باحتجاج شديد اللهجة من الحكومة الصينية على زيارة المسؤولة الأمريكية لتايوان ، إضافة لتصريحات شديدة اللهجة صادرة عن سفارة الصين في واشنطن . ثم تلت زيارة بيلوسي إلى تايوان زيارة أخرى بعد أقل من أسبوعين قام بها السيناتور “إد ماركي” وتبعتها زيارة ثالثة قامت بها السيناتور”مارشا بلاكبيرن” في الخامس والعشرين من الشهر ذاته . أما الاستفزاز الأمريكي الأشد خطورة ضمن مسلسل الاستفزازات فقد جاء على شكل إعلان عن صفقة أسلحة أمريكية إلى تايوان بقيمة تتجاوز مليار دولار وتتضمن صواريخ أرض- جو وصواريخ مضادة للسفن والفرقاطات الحربية .
وقد جاء مسلسل الاستفزازات الأمريكية المنوه عنه نقيضاً للتأكيدات المستمرة للإدارة الأمريكية الحالية بأن سياسة الولايات المتحدة إزاء المسألة التايوانية لم تتغير. وكان الرئيس جو بايدن قد أدلى بتصريحات في أواخر شهر أيار (مايو) الماضي “خرج فيها” (استناداً إلى صحيفة واشنطن بوست) “عن سياسة الغموض الاستراتيجي” (Policy of Strategic Ambiguity) المتبعة منذ زمن في هذا المضمار ، إذ قال بايدن : أن الولايات المتحدة “على استعداد لاستخدام القوة العسكرية لمواجهة الصين دفاعاً عن تايوان” .
احتمالات نشوب نزاع مسلح بين الصين والولايات المتحدة
في ضوء ما تقدم ، يبقى السؤال : لماذا تقوم الولايات المتحدة بهذه الاستفزازات للصين وهي التي اعترفت بجمهورية الصين الشعبية ووافقت على شغلها مقعد الصين ، بدلاً من تايوان ، في مجلس الأمن وباقي منظومة الأمم المتحدة منذ سبعينات القرن الماضي وأقرت بمبدأ الصين الواحدة ولا تفتأ تؤكد بين الفينة والأخرى أن سياستها إزاء تايوان لم تتغير ؟
رغم ما تورده وسائل الإعلام الأمريكية والغربية عموماً من أخبار غير مطمئنة يومياً عن احتمالات نشوب أزمة بين الولايات المتحدة والصين والتوقعات المرعبة لتحول هذه الأزمة إلى مواجهة أو نزاع نووي مسلح نتيجة خطأ في الحسابات (miscalculation) من قبل أيٍ من الطرفين أو كلاهما ، رغم ذلك فإن المؤسسات الفكرية الأمريكية تكاد تجمع على أن شيئاً من هذا لن يحدث وأن مشكلة تايوان لن تقود البلدين العملاقين إلى تصعيد لا تحمد عقباه أو نزاع مسلح أو حرب شاملة تأكل الأخضر واليابس . وهنا لابد من التنويه بما خرجت به شخصياً من انطباعات خلال عملي السابق في بكين والذي استمر خمس سنوات ، وهي انطباعات تتماهى تماماً مع ما تقوله المؤسسات الفكرية الأمريكية . قد يرى بعض المحللين في هذه الانطباعات تفاؤلاً زائداً وغير مبرر ، لا سيما وأن رأيي يستند إلى حقائق كنت قد شاهدتها وسمعتها وعايشتها في الصين قبل عشرين عاماً ، وأن التفكير الاستراتيجي قد اختلف مع التطور الذي جلبه النمو الاقتصادي الهائل للصين وما تبعه من تطورات على المستويات كافة بما فيها السياسية والاجتماعية والعسكرية ، خاصةً وأن مؤشرات عديدة تدل على أن الرئيس الصيني الحالي “شي جين بينغ” أكثر ميلاً نحو اليسار ، وربما التطرف والتشدد والقدرة على حسم المواقف ، من سلفيه اللذين عاصرتهما خلال سنوات عملي في بكين وهما “جيانغ زيمين” و”خو جينتاو” ، كما قد يرى بعض المحللين أن الرئيس “شي” لن يجنح للسلم ويقدم تنازلات حول تايوان كما قدم أسلافه لاستعادة هونغ كونغ من الاستعمار البريطاني ، حيث أن الصين اليوم غير الصين بالأمس .
كل هذا صحيح ولكن ما يحسم الجدل حول الموضوع هو إلقاء نظرة على طبيعة ومستقبل العلاقات الأمريكية – الصينية .
مستقبل العلاقات الأمريكية – الصينية
في مقالٍ له خلال الشهر الماضي بمجلة “Foreign Affairs” الأمريكية بعنوان Rivals Within Reason قال كيفين راد أن “العلاقة الصينية الأمريكية يمكن أن توصف بأنها بمثابة منافسة بين البلدين ، ولكن رغم أن تلك المنافسة آخذة في الاشتداد إلا أنها قد لا تتحول بالضرورة إلى منافسة خطرة تؤدي إلى حدوث أزمة متصاعدة أو نزاع قد يضع البلدين في أتون حرب” ، ويرى رئيس الوزراء الأسترالي السابق، الذي يتحدث اللغة الصينية بطلاقة ، أنه رغم التنافس الشديد بين الولايات المتحدة والصين إلا أنهما سائران نحو ترتيبات ثنائية قد تحد من شدة التنافس بينهما ولكن لا تلغي تماماً مصادر التصعيد . يؤيد هذا الرأي عدد من المحللين السياسيين الآخرين الذين يرون أن لا الولايات المتحدة ولا الصين تجد نفسها في الوقت الراهن جاهزة لخوض حربٍ مع الأخرى سواءً من أجل تايوان أو من أجل هدفٍ أكبر يتمثل في الهيمنة على بحر الصين الجنوبي أو على منطقة جنوب شرق آسيا بأكملها . ثمة معوقات قد نأتي على ذكرها بالتفصيل في مقالٍ لاحق تحول دون اتخاذ أيٍ من هاتين القوتين العظميين قراراً بمحاربة الأخرى دون أضرار بالغة تصيبها . جديرٌ بالذكر أن النمو الاقتصادي الصيني ، الذي تضعه الصين ضمن أولوياتها الاستراتيجية ، قد شهد خلال السنوات القليلة الماضية تباطؤاً قد يعيق سعي الصين إلى إزاحة الولايات المتحدة واحتلال مركز الاقتصاد رقم واحد في العالم ، ولكن رغم ذلك ثمة مؤشرات واضحة بأن الصين ستواصل دفع نموها الاقتصادي إلى الأمام حتى تحقق تلك الغاية . أما الولايات المتحدة فليست جاهزة حالياً لمواجهة مع الصين لأسباب عديدة قد يكون أهمها الورطة التي أوقعت نفسها بها وأوقعت أوروبا معها عندما استفزت روسيا وجرَّتها إلى حرب طويلة الأمد على أوكرانيا ، هذا فضلاً عن تردد واشنطن الآن في سحب باقي قواتها من الشرق الأوسط والتوجه نحو الشرق الأقصى وذلك بسبب استمرار بل تفاقم مشاكل الشرق الأوسط بما في ذلك الأوضاع المتوترة في العراق وسوريا ومشكلة البرنامج النووي الإيراني والحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل وتهديدات الأخيرة وما يقابلها من تهديدات مضادة من حزب الله ، هذا فضلاً عن أن تطبيع العلاقات مؤخراً بين بعض الدول العربية وإسرائيل لم يجلب السلام المنشود للشرق الأوسط بل فاقم الوضع أكثر وأكثر في الأراضي الفلسطينية المحتلة . كذلك فقد أخطأت واشنطن في حساباتها عندما ظنت بأن حرب روسيا على أوكرانيا سينجم عنها تدمير الاقتصاد الروسي وزعزعة استقرار الاقتصاد الصيني (إذا ما هبت الصين لمساعدة روسيا) الأمر الذي سيبقي الساحة خالية للولايات المتحدة الأمريكية لإدامة تربعها على عرش النظام العالمي أحادي القطبية الذي تحلم به الولايات المتحدة .
*سفير سابق في الصين وباحث في الشؤون الدولية
شاهد أيضاً
بساطة.. مجتمع مريض بحاجة الى منقذ!!
احمد الشاوش* على بلاطة.. نحن مجتمع مريض يعاني من ضيق في النفس وشلل في الامانة …