مازیار شکوری*
الحرب الإقليمية في غرب آسيا تتسع تدريجياً وتزداد عمقاً. لقد اقترب محور المقاومة بقيادة إيران ومحور الاستعمار الغربي وإسرائيل بقيادة أميركا من نقطة المواجهة الجادة. ما تظهره الظروف هو أن ترامب، باختياره لأساليب خاطئة، لم يتمكن فقط من إنهاء الحرب في غرب آسيا ليتفرغ لمواجهة الصين، بل أدخل أميركا، خلافاً لرغبته الباطنية، في مستنقع الحرب في الشرق الأوسط.
كان خطأ ترامب أنه انخدع بنتنياهو ولوبي الصهاينة، وظن أن استمرار الحرب وقصف غزة واليمن يمكن أن يهزم الفلسطينيين وحركة حماس واليمنيين في غرب آسيا وينهي الحرب هناك، لكن تحليله لقدرات حماس وإرادة الفلسطينيين ودوافع وقوة النيران لدى اليمنيين كان خاطئاً تماماً ومستنداً إلى الوهم. الآن، جعل ترامب أميركا أكثر انغماساً في مستنقع الحرب في غرب آسيا من أي وقت مضى.
ترامب يشبه شخصاً سقط في مستنقع ويواصل التخبّط، لكن حركاته تزيده غرقاً. في هذا السياق، دفعته تصرفاته وتحليلاته الخاطئة إلى وضع أميركا على شفا الحرب مع إيران. ولا شك أن الجيش الذي لم يتمكن حتى الآن، بعد 18 شهراً، من التغلب على اليمنيين في البحر الأحمر ومضيق باب المندب والسيطرة عليهم، لن يكون قادراً بالتأكيد على مواجهة إيران، التي تسلحت من أخمص قدمها إلى قمة رأسها بصواريخ مدمرة.
إحدى الاستراتيجيات الكبرى لإيران منذ سنوات كانت تتمثل في السيطرة على الأميركيين كخطوة أولى، وإضعافهم كخطوة ثانية، ثم طردهم من المنطقة كخطوة ثالثة. وقد مضت إيران في تنفيذ هذه الاستراتيجية عملياً وميدانياً منذ سنوات، أي منذ دخول الأميركيين إلى العراق، حيث سارت بها عبر مراحل مختلفة، ومنعت تشكيل “الشرق الأوسط الجديد” الذي طرحه آنذاك الرئيس الأميركي جورج بوش ووزيرة خارجيته كونداليزا رايس، وأفشلت هذا المشروع.
من خلال تشكيل وتسليح فصائل المقاومة العراقية، وشنّ هجمات متواصلة طوال هذه الفترة، ألحقت إيران خسائر كبيرة بالأميركيين في العراق. وخلال حرب طوفان الأقصى، أوكل إلى الفصائل العراقية ضمن محور المقاومة مهمة استهداف القواعد الأميركية في العراق وسوريا.
ربما تبدو هذه الهجمات الصاروخية التي تنفذها فصائل المقاومة العراقية ضد القواعد الأميركية في العراق وسوريا غير ذات أهمية كبيرة ظاهرياً، لكن الواقع يشير إلى أنها أجبرت الأميركيين على استنزاف جزء من قدراتهم لحماية قواعدهم من هجمات الفصائل العراقية، مما أفقدهم التركيز اللازم لتحقيق أهدافهم في المنطقة.
لكن ما هو مهم للغاية هو أن إيران، من خلال تخطيط طويل الأمد لطرد الأميركيين من المنطقة، أصبحت الآن جاهزة وتنتظر مواجهة مباشرة وحرباً مع الأميركيين. طوال هذه السنوات، وخلال فترة رئاسة بايدن، تجنّب الأميركيون الحرب مع إيران بسبب إدراكهم الجزئي لقدراتها العسكرية والصاروخية.
الأميركيون والغربيون لا يهاجمون الدول التي تمتلك تسليحاً قوياً. لقد أثبتت التجربة أن الأميركيين والغربيين يلجؤون إلى العدوان العسكري على الدول في حالتين فقط: إما أن تكون الدولة المستهدفة، كما كان الحال مع يوغوسلافيا، خالية تماماً من الأسلحة العسكرية وليس لديها قدرة على مواجهة الهجمات الأميركية، مما يسمح للأميركيين بإلقاء 90 ألف قنبلة على بلغراد خلال 90 يوماً، أو أن تكون الدولة مسلحة وتتمتع بقدرات عسكرية كبيرة، كما كان الحال مع العراق في عهد صدام حسين وليبيا في عهد القذافي، حيث يُشترط أولاً نزع سلاحها قبل أن تتعرض لعدوان وحشي من القوى الاستعمارية والأميركيين.
المسألة هي أن إيران لا تنتمي إلى أيٍّ من هاتين الفئتين من الدول، وهذا ما يجعل الأميركيين والغربيين غير قادرين على إقناع أنفسهم بالهجوم عليها.
لكن قضية ترامب تختلف عن بقية رؤساء أميركا. فعادةً ما يصل رؤساء الولايات المتحدة إلى البيت الأبيض عبر آلية سياسية احترافية، حيث يتدرجون من المراحل الدنيا في الهيكل الحزبي، ويتقدمون تدريجياً إلى المستويات العليا، حتى يصلوا إلى الرئاسة بعد تراكم الخبرات.
لكن ترامب لم ينمُ داخل هذا النظام فحسب، بل لم يكن موجوداً فيه أصلاً، ولا ينبغي حتى اعتباره شخصية سياسية. فهو غريب عن السياسة والشؤون الدولية، إذ إنه رجل أعمال يعتقد أن عليه استخدام أخلاقيات وقواعد الوساطة التجارية في السياسة بدلاً من الأخلاقيات والقواعد السياسية.
ترامب كتب قبل فترة رسالة إلى قائد الثورة في إيران، وكما قيل، فقد خيَّر إيران بين التفاوض أو الحرب. وبالطبع، كما هو الحال مع جميع الساسة الغربيين، فإن ما يقصده ترامب بالمفاوضات هو الاستسلام.
وبحسب عبد الخالق عبد الله، المستشار السابق لمحمد بن زايد، فقد تضمنت شروط ترامب للتوصل إلى اتفاق مع إيران ما يلي:
1.التوقف الكامل عن البرنامج النووي.
2.إغلاق عمليات تخصيب اليورانيوم.
3.وقف إرسال الأسلحة إلى الحوثيين في اليمن.
4.قطع الدعم المالي لحزب الله اللبناني.
5.حل الفصائل المسلحة التابعة للحشد الشعبي في العراق.
6.مهلة شهرين لتنفيذ هذه الشروط.
7.في حال القبول، يتم رفع العقوبات وإنهاء عزلة إيران.
في حال الرفض، يتم تنفيذ عمل عسكري واسع ضد إيران.
وأشار عبد الخالق عبد الله أيضاً إلى أن الرسالة كانت تحمل في جوهرها تحذيراً لطهران بشأن احتمال تنفيذ عملية عسكرية واسعة في حال رفضها التفاوض.
المطالب التي طرحها ترامب في رسالته لقائد الثورة الإيرانية تكشف تماماً مدى بعده عن الواقع السياسي، وعدم إدراكه لقضايا السياسة الدولية، أو القوة العسكرية الإيرانية، أو سيطرة إيران على المناطق الاستراتيجية، أو مدى تسليحها وقدراتها العسكرية.
وفي 12 مارس 2025، ورداً على ذلك، قال قائد الثورة في إيران، مع إدراك دقيق لموقع إيران الاستراتيجي وقدراتها العسكرية:
“أمريكا تهدد بالعمل العسكري! هذا التهديد، من وجهة نظري، غير عقلاني؛ فالحرب وإثارة النزاعات وتوجيه الضربات ليست من طرف واحد. إيران قادرة على توجيه ضربة متقابلة وبالتأكيد ستوجهها. وأعتقد حتى أنه إذا ارتكب الأمريكيون أو عملاؤهم أي خطأ، فسيكونون هم الأكثر تضررًا. بالطبع، الحرب ليست شيئًا جيدًا، ونحن لا نسعى للحرب، ولكن إذا بادر أحد بالاعتداء، فسيكون ردنا حاسمًا وقاطعًا”
كما قال قائد الثورة في إيران، في 21 مارس 2025، بشأن تهديدات الأميركيين:
“لأتطرّقْ إلى قضيّة، وهي التصريحات السياسيّة في هذه الأيام، تصريحات الأمريكيّين والإدارة الأمريكيّة؛ أحدهم يقول شيئًا وآخر يُكمل كلام الأوّل، وآخر يرفضه، وآخر يُثبته. سأكتفي بذكر نقطة أو اثنتين. النقطة الأولى نقطة مهمّة، وهي أنّ الأمريكيين يجب أن يعلموا أن التهديد لن يصل إلى نتيجة أبدًا في مواجهة إيران. الموضوع الثاني؛ ليعلموا، هم وغيرهم، أنهم سيتلقّون صفعة قاسية إذا أقدموا على أي خباثة تجاه الشعب الإيراني”
المسألة هي أن إيران، من خلال إدراك دقيق لوضعها ووضع محور المقاومة، ومعرفة دقيقة بالعدو، ومن خلال التخطيط طويل الأمد الذي مضت به قدماً خطوةً بخطوة منذ سنوات، أصبحت الآن مستعدة لمواجهة عسكرية مع الأميركيين وطردهم من المنطقة.
إيران سبق أن نفذت هجوماً صاروخياً قوياً على قاعدة “عين الأسد” الأميركية في العراق، وقد أعدّت شبكة CNN تقارير موثقة حول ذلك، وأجرت مقابلات مع الجنود الأميركيين. وقد وصف الجنود الأميركيون تلك الليلة في قاعدة عين الأسد بأنها كانت مرعبة. في البداية، أنكر الأميركيون وقوع خسائر بشرية في صفوفهم جراء الهجوم الإيراني، لكن لاحقاً، وجّه أعضاء في الكونغرس الأميركي، مثل ماري هولان، النائبة السابقة عن ولاية بنسلفانيا، انتقادات لوزير الخارجية الأميركي آنذاك، مايك بومبيو، واتهموه بإخفاء الحقيقة، مؤكدين أن عشرات الجنود الأميركيين تعرضوا لإصابات خطيرة خلال الهجوم الإيراني على قاعدة عين الأسد.
بالطبع، حجم الخسائر البشرية والمادية التي لحقت بالقاعدة الأميركية ليس هو القضية الأهم، بل الأهم هو أن إيران، عبر هذا الهجوم الصاروخي المكثف، أثبتت أنها تملك الإرادة والقدرة على توجيه ضربات مباشرة إلى المواقع الأميركية، وهو أمر لم يجرؤ على فعله حتى ستالين والاتحاد السوفيتي.
قبل أيام، كتب تاكر كارلسون، المذيع السابق في شبكة فوكس نيوز، على حسابه في تويتر حول مدى قدرة إيران على إلحاق الضرر بأميركا:
“من الجدير بالذكر أن الهجوم على المواقع النووية الإيرانية سيؤدي بشكل شبه مؤكد إلى مقتل آلاف الأميركيين في القواعد المنتشرة في جميع أنحاء الشرق الأوسط، وسيكلف الولايات المتحدة عشرات المليارات من الدولارات. قد تكون تكلفة الأعمال الإرهابية المستقبلية داخل الأراضي الأميركية أعلى من ذلك. هذه ليست مجرد تخمينات، بل هي تقديرات صادرة عن البنتاغون نفسه. إن حملة قصف ضد إيران ستؤدي إلى اندلاع حرب، وهذه الحرب ستكون حرب أميركا. لا تدعوا المروجين يخدعونكم”
ما يميز كلام تاكر كارلسون هو أنه يشير إلى أن هذه التحليلات حول قدرة إيران ونتائج الحرب المباشرة بين إيران وأميركا تم الإبلاغ عنها من قبل البنتاغون. ولذلك، سيكون اتخاذ القرار في أميركا بخصوص شن الحرب على إيران أمرًا في غاية الصعوبة، وقد يتجنب البنتاغون و الكونغرس الأميركي منح إذن للهجوم على إيران في حال قرر ترامب ذلك. على أي حال، وبالنظر إلى تهديدات ترامب، فإن هناك خيارين أمام ترامب وأميركا:
إما أن يتراجعون عن الهجوم والحرب ضد إيران ويقبلون بشروط إيران، مما سيشكل إذلالاً لترامب وانهزاماً للهيمنة الأميركية، أو أنهم سيشنون حربًا مباشرة ضد إيران، ولن يكون لها سوى نتائج الفشل وانهيار الهيمنة الأميركية.
قائد الثورة في إيران قد رفض شروط أميركا للمفاوضات وأعلن أن إيران مستعدة للحرب المباشرة. على الرغم من أن قائد الثورة لم يرد على الرسالة الخطية من ترامب، إلا أن إيران قد ردت على تهديدات ترامب يوم أمس برسالة تهديدية، حيث كشفت عن مدينة صاروخية ضخمة تحتوي على مجموعة كبيرة من الصواريخ الجديدة التي تتمتع بمدى يزيد عن 1000 كيلومتر وقدرة تدميرية هائلة.
النقطة الهامة في الكشف عن المدينة الصاروخية الجديدة في إيران هي ما ذكره الجنرال باقري، رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية، خلال زيارته لهذه المدينة الصاروخية، حيث قال:
“جميع الأبعاد التي تحتاجها القوة لتكون عشرات المرات أقوى من وعد صادق 2 قد تم وضعها في مسار التنفيذ. بالطبع، سرعتنا في النمو تفوق بكثير سرعة معالجة نقاط الضعف في جبهة العدو، وبالتالي العدو سيكون حتماً في موقف متراجع في هذه الموازنة. القوات المسلحة مستمرة بجدية في مسار النمو والتطوير وتعزيز قدراتها.”
تُظهر تصريحات الجنرال باقري أن إيران عازمة على مواجهة ترامب، وأنها تخطط لتنفيذ الهجوم الصاروخي الثالث على إسرائيل، الذي سيكون تحت اسم “عملية وعد صادق 3”. من المتوقع أن يكون هذا الهجوم الصاروخي مدمراً لدرجة أن يُظهر للعالم ولترامب أن المواجهة مع إيران وتهديدها لن يؤدي سوى إلى الدمار للعدو.
في وقت سابق، قال ترامب إن المسؤولية عن الهجمات التي شنها الحوثيون ضد إسرائيل والسفن الحربية الأميركية تقع على عاتق إيران، وهدد إيران بالهجوم العسكري. كشف المدينة الصاروخية الجديدة كان رداً مباشراً على تهديدات ترامب، وأعلنت إيران للعالم بشكل علني أنها لن تقوم بنزع سلاحها أو نزع سلاح محور المقاومة، بل هي مستعدة تماماً لتدمير إسرائيل والقتال المباشر ضد الأميركيين.
*كاتب ومحلل سياسي ايراني
