د. محمد علي صنوبري*
في خطوة متوقعة بقدر ما هي صادمة، أقدم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على اعتقال أكرم إمام أوغلو، عمدة إسطنبول وأبرز منافسيه السياسيين. بهذا التحرك، لم يكشف أردوغان عن قوته، بل عن خوفه. لقد أدرك، كما يدرك الكثير من المراقبين، أن إمام أوغلو ليس مجرد خصم سياسي، بل هو البديل الواقعي والوحيد القادر على انتشال تركيا من أزمتها الراهنة، داخليًا وخارجيًا.
لكن الاعتقال، بدل أن يخنق الحراك الديمقراطي، أطلق شرارة غضب شعبي متصاعد قد يكون بداية النهاية لحقبة أردوغان الممتدة منذ أكثر من عقدين. في الواقع، لا يبدو أن أردوغان يدرك أن قمع الخصوم في زمن الانهيار الاقتصادي والانكشاف الإقليمي لا يؤخر السقوط، بل يعجّل به.
الاعتقال السياسي ليس علامة قوة
لطالما اعتمد أردوغان على مزيج من الشعبوية والقمع والمؤسسات الموجهة لضمان بقائه في السلطة، لكن اعتقال إمام أوغلو يخرج عن النطاق المعتاد. فالرجل ليس معارضًا هامشيًا، بل هو من هزم حزب العدالة والتنمية مرتين في إسطنبول، رغم تدخلات الدولة العميقة. وهو من استطاع أن يطرح رؤية تركيا الجديدة: دولة مدنية، حديثة، متصالحة مع نفسها ومع جيرانها.
باعتقاله، لم يعترف أردوغان فقط بأن إمام أوغلو يشكل تهديدًا وجوديًا له، بل كشف أيضًا عن مدى هشاشة سلطته. هذا التحرك لن يمر مرور الكرام، لا شعبيًا ولا إقليميًا. فالتاريخ التركي يعلمنا أن اللحظات التي يتورط فيها الحكام في قمع رموز المعارضة بهذا الشكل، غالبًا ما تكون مقدمة لتحولات كبرى.
تركيا تتغير، سواء أراد النظام أم لا
حتى قبل اعتقال إمام أوغلو، كانت بوادر التغيير السياسي في تركيا واضحة. الغضب الشعبي من التضخم، والانهيار الاقتصادي، وتدهور مؤسسات الدولة، وفشل السياسة الخارجية في تحقيق أي مكاسب ملموسة، كلها كانت مؤشرات على قرب نهاية عهد أردوغان.
ومع تحييد المرشح الأكثر شعبية، فإن النظام السياسي التركي يبدو الآن أقرب إلى الأنظمة السلطوية الكلاسيكية، منه إلى نموذج “الديمقراطية المحافظة” الذي كان أردوغان يروّج له. لكن هذه السلطوية المستجدة لا تصمد طويلًا في وجه مجتمع حضري، متعلم، وشبابي كالمجتمع التركي، خصوصًا عندما تقترن بإخفاق اقتصادي وانعزال دولي متزايد.
حقبة ما بعد أردوغان: تركيا تعود إلى الداخل
مع تزايد الضغط الداخلي والدولي، يبدو أن اعتقال إمام أوغلو سيكون الشرارة التي تطلق الحراك نحو التغيير. ومن المرجح أن تشهد تركيا، عاجلًا أم آجلًا، نهاية عهد أردوغان، سواء عبر صناديق الاقتراع أو بفعل الانهيار المؤسسي الكامل. وعندها، ستكون مهمة إعادة بناء الدولة من نصيب قيادة جديدة، تُجمع الأنظار على أنها ستكون من مدرسة إمام أوغلو.
أحد أهم التغييرات المتوقعة هو الانسحاب من التدخلات الإقليمية غير المثمرة التي ميزت سياسة أردوغان الخارجية. من سوريا إلى ليبيا، ومن العراق إلى شرق المتوسط، خاضت تركيا مغامرات عسكرية ودبلوماسية كلّفتها اقتصاديًا وأضرّت بعلاقاتها مع جيرانها. القيادة القادمة، المستوحاة من نهج إمام أوغلو، ستعيد ترتيب الأولويات: تقليص التدخلات، التركيز على الاقتصاد، وإعادة فتح قنوات الحوار الإقليمي.
نهاية تصدير الوقود لكيان الاحتلال
من الملفات التي يُتوقع أن تشهد تحولًا جذريًا، هو ملف العلاقات التركية-الإسرائيلية، خصوصًا في جانبها الاقتصادي. فرغم الخطابات النارية من أردوغان بشأن فلسطين، واصل نظامه تصدير المواد الاستهلاكية والوقود لإسرائيل، حتى في ذروة الاعتداءات على غزة. هذا التناقض السياسي شكل نقطة سوداء في سجل النظام.
القيادة الجديدة، خصوصًا إن حملت روح إمام أوغلو ومواقفه، ستنظر بجدية في قطع هذه الإمدادات أو تقييدها بشكل كبير، خاصة تلك التي تصب في المجهود الحربي الإسرائيلي. ليس فقط إرضاءً للرأي العام الداخلي والإقليمي، بل أيضًا كخطوة رمزية على طريق استعادة أخلاقيات السياسة الخارجية التركية.
تحالفات إقليمية جديدة
أحد أهم التداعيات الإيجابية للتغيير السياسي في تركيا سيكون في علاقة أنقرة بجيرانها المباشرين: سوريا، العراق، إيران، وروسيا. هذه الدول طالما نظرت بعين الشك إلى سياسة أردوغان التوسعية، واعتبرتها تهديدًا مباشرًا لاستقرارها.
بمجرد مغادرة أردوغان المشهد، سيجد هؤلاء اللاعبون في القيادة الجديدة شريكًا أكثر واقعية وانفتاحًا على الحوار. تخفيف التدخل في سوريا سيفتح الباب أمام تعاون مشترك في ملف اللاجئين، وضبط الحدود، ومكافحة الإرهاب. العلاقات مع العراق قد تتحسن عبر وقف القصف المستمر لمناطق الشمال. إيران ستستعيد علاقتها مع تركيا على قاعدة الاحترام المتبادل، لا التنافس الطائفي. أما روسيا، فسترحب بتركيا أقل تقلبًا، وأكثر قابلية للتنسيق في ملفات حساسة كأمن البحر الأسود، ونقل الطاقة.
الشعب أولًا: الاقتصاد بدل المغامرات
بعيدًا عن الجغرافيا السياسية، فإن الداخل التركي سيكون المستفيد الأول من هذا التحول. التراجع عن التدخلات الخارجية سيوفر موارد هائلة يمكن إعادة توجيهها نحو تحسين الوضع الاقتصادي، دعم الصناعات، خفض التضخم، وإنعاش الليرة التركية. إعادة الثقة بالمؤسسات، واستقلال القضاء، وضمان الحريات، كلها ستكون ممكنة فقط في ظل قيادة جديدة، تتبنى نهجًا واقعيًا لا شعبويًا.
ومن هنا، فإن سجن إمام أوغلو، بدل أن يكون نهاية لحلمه السياسي، قد يكون بداية لتكريسه رمزًا للتغيير، ورمزًا لتركيا ما بعد أردوغان: تركيا ديمقراطية، متصالحة، أقل عدوانية، وأكثر اتزانًا.
من الزنزانة إلى الدولة
حين يسجن نظامٌ حاكمٌ خصمه السياسي الأبرز، فهو لا يؤكد قوته، بل يعلن بداية نهايته. أردوغان، باعتقاله إمام أوغلو، لم يعتقل رجلًا، بل أطلق مرحلة. مرحلة تعيد تركيا إلى الداخل، تعيد ضبط علاقاتها بجيرانها، وتمنح المنطقة نفسًا جديدًا.
قد لا نعرف التوقيت الدقيق لسقوط النظام الحالي، لكننا نعرف الشكل الذي ستأخذه تركيا بعده: دولة مدنية، متزنة، تنهي تدخلاتها العقيمة، وتفتح صفحة جديدة مع جيرانها ومع شعبها. هذه ليست أمنيات. هذه معادلة منطقية في ضوء ما يجري. وسجن إمام أوغلو، من حيث لا يدري أردوغان، قد يكون القفل الأخير على تابوت حكمه.
*مدير مركز الرؤية الجديدة للدراسات الاستراتيجية
