بقلم/ احمد الشاوش –
عاش أبناء مدينة صنعاء القديمة أجمل وأرق وأسعد لحظات العمر ، وكان لـ بيت غمضان والسنيدار والمترب وعسلان والوتاري والعمري والثور وغيرهم من البيوت التجارية شهرة كبيرة وسمعة طيبة ونفوذ كبير وثقافة واسعة وأريحية بلاحدود جعلتهم جديرين بالاحترام في الاوساط الشعبية ، وكانت صنعاء هجرة ومقصد كل حالم وأهلها محط انظار واعجاب الرحالة والمؤرخين.
وكان بير العزب عنواناً للبساتين الساحرة والزهور الفواحة والثمار المتنوعة ، محطة للجمال والعشق والطيرفه واختلاس نظرة غانية وابتسامة غزال الحي الفاتن ، لقربه من قاع اليهود المشهور بجمال يوسف الذي فتن بعض عشاق ومطيرفي صنعاء رغم الشموس الحامية.
لقد تغنى بعض الشعراء والفنانين ، كالشاعر عبدالله هاشم الكبسي والفنان الكبير احمد السنيدار ، وغيرهم بـ بير العزب وما كلمات الغزل الفاتنة واللحن الجميل والصوت الاجمل لاغنية :”مانزلتك بير العزب بين الشموس الحامية..او شي معك مقضى غرض ولابنية حالية.. إلا دليلاً على اريحية اهل صنعاء ومشاعرهم الفياضة بالحب والاحساس المرهف والغزل العفيف.
ومن بدائع الزمن ان قصورهم الشامخة ومناظرهم الشاهقة ودواوينهم العامرة ومجالسهم الراقية وفكرهم الثاقب وثقافتهم العالية واعمالهم الجليلة ومدنيتهم الساحرة وطموحهم المُعانق للسماء خير شاهد على ذلك الزمن الجميل.
حتى لهجة أهل صنعاء صارت عنواناً للرقة واللطافة والدلال والدلع والغنج والموسيقى التي تُذهل الوافد والزائر والباحث عن روعة المكان وجمال الروح، الذي يعكس حالة الرخاء وراحت البال وقطرات السماء التي تغسل القلوب وتسقي البساتين الفواحة لمدينة تعيش على انغام نُبلاء اليونان ورقة وعذوبة باريس.
ومازال غيث وصدى الذكريات الجميلة حاضرا في ذاكرتنا المفتونة بالعلم والطرب الجميل ورنين الوتر الذي يُهيج احاسيسنا والالحان الرائعة والاصوات الجميلة التي تُدغدغ عواطفنا ومشاعرنا الرقيقة في دولة الحُب ، حيث لا مجال للحقد والعنف والكراهية والغرور والانتقام.
كانت صنعاء لها تراتبية خاصة ومقامات محفوظة واسلوب حياة فريد، تنام مبكرة وتصحو مبكرة على وقع أذان الفجر لأداء الصلاة في مساجدها واستنشاق نسيمها وتلاوة القرآن وكان محمد حسين عامر والقريطي عنواناً للتلاوة العطرة والصوت الجميل والقراءات السبع والروحانية الخاصة في كل دار وبيت ومنزل وكان لبرنامج فتاوى وقع خاص والنشرة بريق والاغاني اليمنية الجميلة حلاوة واريحية نادرة.
مازلت مُغرماً بزمن الابداع والفن الراقي وأكثر ولعاً بالاسطوانات الفنية الجميلة وزمن “البيكم” والصوت النقي ، الذي كانت تقتنية معظم الاسر الميسورة من أمثال بيت السنيدار وعسلان والعمري والوتاري والمترب والثور وغيرهم ، وبينما كانت اسرتنا نفتقد الى ذلك الجهاز الفني النادر ، وكان الراديو ومسجل الكاسيت يُغطي الحدث و يصدح بصوت نجم الاغنية الصنعانية الفنان احمد السنيدار ، وقالب الانسي ولون الحارثي والسمة ومحمد الخميسي وابونصار ، وكلما قمنا بزيارة الى بيت خالتي وصهرنا محمد حسن الثور ، للمجابرة والسمر ، كنا أكثر سعادة وشغفاً وحباً واستماعاً لصوت ذلك البيكم المُذهل الذي وكأنه صُمم وخُصص لاغاني الفنان احمد السنيدار ما غرس فينا ذلك الُحب الكبير للعندليب الاسمر ونجوم الفن.
كانت قصور ومنازل وحارات الابهر والقاسمي ومعمر والعلمي والقاسمي والفليحي وداود والجامع الكبير وغيرها تُردد أغاني كبار الفنانين وكان للأسطوانات الفنية و”البيكم” رونق خاص وصوت رائع واحساس عجيب.
وكنا نتجول في حارة بستان شارب والجامع الكبير والابهر والقاسمي وداود وطلحة ،، والاستمتاع ببساتين صنعاء الخضيرة ونتسابق على الوصول الى مقاشمها للحصول على شيء من التوت والجوز واللوز ببراءة، ونخترق حاراتها وازقتها واسواقها الشعبية ،ونستمع الى روائع ساكني صنعاء وصاحب فرق صاحبه، واخضر لمه تبخل علي بوصلك ، من سب أهيف مبرقع والعمر فرصة ، قل للغواني ناهبات الارواح ، وامعلق بحبل الحب ، ياجانيات العناقيد ، حن قلبي انا من ناظرية ، لله مايحويه هذا المقام ، ياسين عليك ارزم يدك على العود ، وسلام ياروضة الاهجر وطيري الف طيرك ، غاب عني وروحي في يديه ، وقف وودع وبُن اليمن يادُرر ، ياشاري البرق ، آنستنا ياعيد ، تعيش انت وتبقى ، ياحمامي أمانة مادهاك ، البالة ، امشي دلا ، أسامر الليل، أخي المهاجر زمان الذل قد ولى ،،.
كان للأدب والشعر والفن والفقه التاريخ والمعرفة والطرفة والنكتة وسرعة البديهة والتكافل الاجتماعي حضور طاغي يعكس حالة الوعي والذكاء والفراسة والمشاركة والنقاش والابداع في حارات الابهر والقاسمي وطلحة وداود والفليحي والقزالي ومعمر والعلمي وباب النهرين وبستان شارب وحي الجامع الكبير.
وكما كان للقيادة فن وذوق واخلاق ، كان ترمومتر الرومنسية والطيرفه والسعادة مرتفع وكان للنكتة والسحبات والاسقاطات والمقالب اللطيفة مساحة كبيرة ،ورغم ذلك كان الحياء عنوان لتلك المرحلة وساكني صنعاء مثال للنُبل والقيم والجوار والتكافل والتواضع ، حتى لصوص وحشاشي ومساطيل وصيع ذلك الزمن الجميل كانوا أكثر حياء وخجل وانسانية من لصوص وسكارى واغنياء وقتلة اليوم الذين تجردوا عن الضمير والاخلاق وفجروا وتاجروا بالفن والثقافة وحولوا الدين الى سلعة ومصيدة للانتقام من كل جميل في سبيل تحقيق الشهوات والمصالح الخاصة.
كان الوافد والزائر والمهاجر من أي مدينة الى صنعاء لغرض الدراسة والزيارة والعمل والتبضع وشراء بعض الاحتياجات الضرورية يُصدم بجمالها وطبية أهلها ويذوب في قصورها ويسكر في بساتينها ويتوه في ساحاتها ويغرم بمساجدها وكتاتيبها ويُفتن بشوارعها واناقة ونظافة ناسها وعشق نساءها.
لكل ذلك الجمال والروعة والعلم والفن والثقافة والعمل والابداع والخضرة والوجه الحسن صارت صنعاء حديثا ًلمجالس الشرق والغرب ومطمع كل عاشق وهايم وحالم وميسور حتى قيل ان صنعاء لأهل الملك دائمة ، ولابد من صنعاء وان طال السفر ، ما دفع البعض الى الهجرة الداخلية لطلب العلم والعمل والعيش والانصهار في المجتمع المدني العريق الذي مثل نواة الدولة المدينة المؤمنة بقيم التعايش والتسامح والسلام.
أخيراً.. اليوم لم تعد صنعاء رمزاً للعلم والمعرفة وميداناً للفن واللحن وساحة للجمال و القصيدة وأرضاً للخضرة والسعادة ومجلساً للراحة وخفة الدم بعد ان سقطت القيم والاخلاق وتحول الناس الى كلاب ضالة وصار من كل شيء أحسنه حتى السرق !!؟ ورغم انها احتضنت نحو سبعة ملايين يمني من مختلف المدن والقرى اليمنية إلا ان بعض الحاقدين يريدون ان يحولها الى كتلة من النار والاطلال في سبيل السلطة والتسلط ، فهل نحافظ على مدينتنا الجميلة بعيداً عن الحرب والدمار و التعصب والحقد والانتقام وفاء لزهرة المدائن اليمنية وهل يولد الامل وتعود السعادة وتنهض القيم من رُكام الفوضى وضريبة الحروب ورياح السلام .. أملنا كبير .
shawish22@gmail.com