نادية حرحش*
ينشغل بعض العالم بما يجري في الكونغو، وسط الدمار المحدق بالبقعة التي لا تتجاوز أحد حواف غطاء قلم ترامب. القتل والخراب الممتدان من السودان للكونغو لا يحظيان بالقدر نفسه من الاهتمام، فالقارة السوداء كانت ولا تزال بقعة استغلال للعالم الأبيض، منذ بدأ الاستعمار يتوغل نحو “العالم الآخر”، مستعبداً أهله، ناهباً موارده، وسالباً أرواح سكانه.
استحضرتني شخصية غاشمة، سوْدت بياض بلجيكا على عتبات القرن العشرين، حتى جاء هتلر ليحدْق بفظائعه فيما سبقه من مستبدين. لم تكن الحقبة بعيدة عن زمن النازية، فالشخصية التي نتحدث عنها توفت سنة 1935. ليوبولد الثاني، ملك بلجيكا، الذي حفظ التاريخ اسمه بسبب فظائعه بالكونغو، حيث أباد ما يقدر بعشرة ملايين انسان. بل ان مصطلح “جرائم ضد الإنسانية” لأول مرة لوصف ممارساته في إدارة “دولة الكونغو الحرة”.
“دولة الكونغو الحرة”، تشبه في تصميمها فكرة ترامب عن غزة. يمكننا حتى اخذ بعض الجمل والممارسات بحرفيتها لنفهم ان ما نعيشه اليوم ليس الا تكراراً بوجوه جديدة. وحدة اللون توحّدهم: العرق الأبيض الإقصائيّ الذي يرى في الدم الذي يجري افضلية وتفوقا ونقاوة تمنحه الحق في تطهير العالم من كل من يعتبرهم أدنى.
قدم ليوبولد الثاني مشروعه في الكونغو على انه “مهمة حضارية”، بينما كان هدفه الحقيقي النهب والقتل والتشريد.
في خطابه عام 1876في مؤتمر برلين، ادعى ليوبولد أن هدفه هو نشر الحضارة قائلاً:
“فتح هذه المنطقة من العالم أمام الحضارة، والتغلغل في الظلام الذي يغطي سكانها، هذا هو الهدف، وأرى أن الرأي العام يدعم هذه المهمة العظيمة.”
لكن في الحقيقة، لم يكن يرى في سكان الكونغو سوى عمال سخرة لخدمة مصالحه الاقتصادية. بنفس المنطق، يقف ترامب اليوم متحدثاً عن إعادة إعمار غزة، ولكن بعد تطهيرها من سكانها، تماماً كما حاول ليوبولد تحويل الكونغو إلى مستعمرة اقتصادية قائمة على الاستغلال والاستعباد.
يقول ترامب بوضوح: “آمل أن نفعل شيئاً يجعلهم لا يريدون العودة.”
يستخدم ترامب لغة استعمارية مكررة، يصور فيها اقتلاع السكان من أراضيهم كعمل خيري. في حين أن ليوبولد ادعى انه “يجلب الحضارة”، فإن ترامب يروج لفكرة ان الفلسطينيين الذين يطردون من وطنهم سيعيشون في “منازل جميلة، حيث لن يتم إطلاق النار عليهم او طعنهم حتى الموت كما يحدث في غزة.”
لكن الحقيقة أن كلامه يقطر عنصرية واقصائية، بلسان مر مهما حاول تجميل كلماته السامة.
يقول ببرود: “يجب ألا تمر غزة بعملية إعادة بناء واحتلال من قِبل نفس الأشخاص الذين عاشوا هناك، وقاتلوا من أجلها، وماتوا فيها، وعاشوا حياة بائسة هناك. بدلا من ذلك، يجب أن نذهب إلى دول أخرى ذات اهتمام إنساني، وهناك الكثير منها، لبناء مناطق جديدة تماما، ستُمنح في النهاية لمليون وثمانمائة ألف فلسطيني يعيشون في غزة، مما سينهي الموت والدمار… ويمكن للدول المجاورة الثرية أن تدفع كلفة ذلك.”
هذا ليس اقتراحاّ لإعادة الإعمار، بل مشروع تطهير عرقي متكامل. ترامب لم يتحدث عن تمويل دول أخرى لإعادة بناء غزة لسكانها، بل عن بناء “مناطق جديدة تماماً” في دول أخرى حيث يتم تهجيرهم قسراً، في الوقت الذي يتم فيه تحويل غزة إلى مشروع استثماري خالٍ من أهلها.
كما ان ليوبولد لم يكن بحاجة إلى تبرير أفعاله، لأنه قدّم مشروعه كـ “مهمة إنسانية” لجلب الحضارة إلى إفريقيا، بينما
كان في الواقع يعتبر سكان الكونغو أدوات إنتاج لا أكثر. ارتكب ليوبولد الفظائع الموثقة من إعدامات جماعية وبتر للأطراف ومجاعات وأمراض أودت بحياة الملايين. كان من أشهر ممارساته تقطيع أيدي العمال الذين لم يجمعوا الكمية المطلوبة من المطاط، مما جعل الكونغو أرضًا للأطراف المبتورة.
“في التعامل مع جنس من آكلي لحوم البشر منذ آلاف السنين، من الضروري استخدام الأساليب التي تشكل عاداتهم وتجعلهم يدركون قدسية العمل.”
يقول ليوبولد في تعليماته إلى مستكشفه المأجور هنري مورتون ستانلي:
“يجب أن يكون واضحا أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال منح الزنوج أي شكل من أشكال القوة السياسية. هذا سيكون سخيفا. البيض، الذين يقودون المواقع، يجب أن تكون لهم السلطة المطلقة.”
بنفس المنطق، يرى ترامب الأرض الفلسطينية فرصة للسيطرة والاستثمار، حيث يقول: “نرى موقعاً طويل الأمد للسيطرة، واعتقد انه سيحقق استقرارا عظيما في تلك المنطقة من الشرق الأوسط بأكمله.”
ثم يضيف: ” سوف نستولي على تلك القطعة من الأرض ونطورها، ونخلق آلاف وآلاف الوظائف. سيكون شيئاً.
وكأن غزة التي دمرت بالكامل يمكن ان تحول الى منتجع سياحي فاخر لمن يملك المال والقوة، بينما يمنح سكانها خيارا وحيدا: الرحيل.
” لدينا فرصة للقيام بشيء يمكن أن يكون رائعًا. لا أريد أن أكون لطيفا أو ظريفا، لكنه قد يكون ريفيرا الشرق الأوسط.”
هذا ليس: إعادة اعمار”، بل ” إعادة استعمار”. ما يرسخه ترامب هنا هو نفس النموذج الاستيطاني الذي طبقه الأوروبيون في افريقيا: تدمير السكان الأصليين، ثم إعادة بناء الأرض وفق مصالح المستعمر، وبيعها على انها نهضة اقتصادية وحضارية.
وما قامت به إسرائيل خلال الحرب على غزة بدعم كامل ومباشر من أمريكا، لم يحرك أدنى مشاعر الإنسانية لدى ترامب. ما أرقه لم يكن المجازر، بل كيف يمكن تحويل الأنقاض إلى فرصة استثمارية.
: يقول ببرود
“الولايات المتحدة ستتولى أمر غزة. سنكون مسؤولين عن تفكيك جميع القنابل والأسلحة غير المنفجرة، وتسوية الموقع، وإزالة الأنقاض، ثم إنشاء تطوير اقتصادي يوفر عددًا غير محدود من الوظائف والمساكن للسكان هناك… سنقوم بعمل حقيقي، سنفعل شيئًا مختلفا.”
ترامب لا يرى غزة سوى “موقعا استثماريا”، تماماً كما لم يرَ ليوبولد الكونغو إلا كمنجم للثروة. لم يتحدث ترامب بعد عن نهب الغاز، لكنه لا يحتاج إلى ذلك الآن. فهو يراهن على أن يقوم العرب بإعادة بناء غزة، ثم تُنتزع منهم، لتصبح ملكًا لمن احتلها. ربما تسبقه إسرائيل إلى هذه الفكرة، لكن هذا ما ستكشفه الأيام!
ما نعيشه اليوم يؤكد أن العنصرية الاستعمارية متجذرة في الفكر الأمريكي الإمبريالي، وترامب لا يحاول حتى إخفاء ذلك. سواء في الكونغو أو فلسطين، الفكرة المركزية واحدة: السيطرة على أرض وموارد شعب، وحرمانه من السيادة والحياة بكرامة. وعد ترامب بإنهاء الحروب، لكنه أخذ منعطفاً ليوبولدي الطابع: بدلاً من إنهائها، قرر إنهاء الشعوب نفسها، ونهب المكان، ثم جعل الآخرين يعيدون بناءه له.
ترامب لا يعرض مشروع سلام، بل نموذجا استعماريا جديداً: اقتلاع السكان، إعادة تشكيل الأرض، ومنحها للمستثمرين. تمامًا كما قال ليوبولد عن الكونغو:
“نحن لا نبحث عن مستعمرات، بل نؤسس دولة جديدة تديرها قوتنا البيضاء.”
الفرق الوحيد هو أن الاستعمار لم يعد يُسمى استعماراً، بل يُسوق اليوم كـ “صفقة عظيمة”.
ليوبولد، بعد كل جرائمه، لم يكتف فقط بالاستيلاء على الكونغو، بل سمى مدينة باسمه ” ليوبولدفيل”. هل يحلم ترامب بأن يعاد بناء غزة تحت اسم ” ترامبيارد” على أنقاض من وقع على تهجيرهم؟
*كاتبة فلسطينية
