علي الزعتري*
لا يغيب عن بالي شعراً قاله مظفر النواب بحق أحدهم أنه تكرَّشَ حتى صار بلا رقبة! ولا تغيب عن عيني لوحة للفنان العراقي وضاح الورد عن ملجأ العامرية وهي تستدعيك للتمعن في التفاصيل لترى الأجساد المحروقة وعربةً مرميةً لطفلٍ رضيعٍ. وقتها صدمتنا جريمة العامرية وأُصيب وضاح الورد بانهيارٍ وعندما أفاقَ منه رسم لوحةً لتخلد الملجأ وانهيارهما سوياً. بعد العامرية اكتسبنا حصانةً متدرجةً من كثرةِ المجازر التي رأيناها بحق الشعوب بيدِ الأخ وابن العم والعدو، وصار طبيعياً المرور على صور الأجساد المتهتكة والمحترقة و المثقوبة والمتفجرة، خاصةً في غزة. يقولون أن الإحساس تبلد والجلد مُتَمْسِحْ عندما لا يكون هناك رد فعل. المذبحة لا تحرك فينا إلا إصبعاً أو اثنين لنقلب صفحة الهاتف و التلفزيون فقد أرهقتنا الأكفان. في المقابل يلتئم العرب في لؤمٍ و ولائمٍ ليتكرشوا حتى الرقبة. يطوون صفحة المذابح بتأففٍ و يستديرون لصفحات المسرات والليالي الملاح، خاصةً في رمضان. وهكذا كما قال النواب ويقول الطب يكبر الكرش ليصل للذقن، وينفي عن العربي الإحساس. وبينما تصدحُ التلاوات الجميلة من المساجد و تنهمر الدعوات والرجاءات لربٍّ قال ادعوني أستجب لكم، ينسونَ أنه قال أيضاً انفرو خفافاً وثقالاً، و ما من نفيرٍ عربيًّ وإسلاميٍّ إلا للموائد الرحمانية والشيطانية لإن العربي بأنواعهِ ثقيلٌ بالهموم والطعام والفرفشة عن النفير. هذا هو الغُثاء الذي صرناهُ. أمةٌ مُهانةٌ شاغلها الأول ما تبلعهُ وما يُضحكها.
من المسؤول؟ من الذي تسبب بهذا الغياب العربي الإسلامي عن الشعور بذوبان الكرامة؟ من الذي استبدل الصدق الوطني بالنفاق؟ ما الذي جعلنا بُلداء؟ خُضْ في النظريات والدراسات تكتشف كيف يختلف السبب باختلاف الدارس. القومي يقول أن السبب هو غياب الوحدة العربية والإسلامي لغياب الحكم الإسلامي والتاريخي يعود بك للوراثة في الحكم التي جاء بها معاوية بن سفيان وصارت سُنَّةَ الخلافة الأموية والعباسية. وسيقول أيضاً أن السبب هو تسليم الحكم للفرس الذين أسلموا وبقيوا فُرساً ثم للترك المسلمين الذين أزاحوا العربي عن الحكم واستغلوه مماليك وعثمانيين. وسيقول بالإضافة أنه الخلاف المذهبي الذي أتت به شيعةُ هذا وسُنةُ ذاك ومنهم توالدت الحركات الظاهرة والباطنة. عالم الاجتماع سيقول أن السبب هو “الأنا” الموروثة من الانتماء للقبيلة وتحجيم الانتماء لرمز القبيلة سواء بقيت قبيلةً أم صارت دولةً لأن “الأنا” تأتي أولاً ظالمةً ومظلومةً. والسياسي يقول أن السبب هو في المصلحة التي تقتضي الحكمة والتداول مع المجتمع الدولي. استرداد الحقوق يقتضي اتباع سياسة الصبر الاستراتيجي والرد في الزمان والوقت المناسبين. والعسكري يقول أنه متأهبٌ لحماية الحدود والنظام بشرط صدور الأوامر من السياسي ولذلك فإن السبب ليس هو، لكنه بين الفينة والثانية سيستعرض قوته لإبهاج الناس وتخويف العدو. والناس تقول أن السبب هو الفقر والغلاء و انحدار القيم وتسلط الجشع و انتشار الفواحش والفساد. والعاقل منهم يقول أنه الاستعمار والغزو الثقافي ولا يعرف كيف لا يزال الاستعمار يتمكن منا مع الاستقلال والسيادة و انتشار التعليم وارتفاع الوعي. والإقتصادي سيقول أنه العالم المتشابك بمصالحِ المال والثروات والاستثمار الحكيم. والكل يعلم أن السبب هو الحاكم ولا يقولها إلا بصيغة الجمع حفاظاً على رأسهِ من التدحرج بتهمة التطاول! فمن هو هذا الحاكم الذي يسيطر بكل بساطة على كل شيء؟
الحاكم ليس ذاك الرجل برأسِ الهرم بل هو الخوف الذي يمتلكنا من فقد الحياة، على تقتيرها في معظم الأحيان. لا أحد يستطيع أن يتخيل حياةً دون ما نشأنا عليه من مُعيناتٍ ضرورية تحيط بنا من الماء للكهرباء ولوسائل التسوق والتسلية. فما بالك بما هو أقسى مثل فقد السقف و صعوبة الاستشفاء و قساوةَ موت الضنى قتلاً و لملمة جثث القريب والجيران وصلاة الجنازة بدون توقفٍ كل يوم. لا أحد ببلداننا مستعدٌ مثلما الصهيوني لحربٍ، فلا وجود لدينا لملاجئ ولا تدريبٍ حتى في أساسياته على مواجهة الطوارئ فما بالك بالحروب! فكيفَ لا نخاف؟ وبالطبع فإن مهمة القتال هي للجيوش و لا تشمل المواطن أما الآمل في وحدة الشعب والجيش فيقولها كليشيه فارغةً من جوهرها فالجيش لن يدافع عنه ومقدساته دون أوامرَ يعلم أنها لا تصل. في سويسرا بلاد الحياد كل مواطنٍ قادرٍ هو جندي متكاملٌ بالسلاح جاهزٌ لخوض حرب في سويعاتٍ. بلاد الساعات الغالية والمصارف السرية لديها جيش مواطنين. عندنا التجنيد الإلزامي مقتصرٌ على عددٍ قليلٍ من الدول وقد لا يعدو عن كونهِ إلزاماً شكلياً يحاول الناس التهرب منه، والجيش الرسمي وظيفةٌ واستعراضاتٌ وحراسة نظامٍ حدود. بإسرائيل الجندية مسارَ حياةٍ مرسومةٍ يعرف الجندي فيها مكانه وواجبه مسبقاً وسريعاً. وهو مطمأنٌ أن لأهلهِ ملجأً يحميهم ومشافٍ مجهزةً لاستقبالهم ودعمٍ نفسيٍ في حال هلعهم. سُحِبَ الخوف من هذا الجندي الصهيوني على من ترك وراءه و بسبب هذا وثقته بسلاحهِ المتفوق يغزو ويقتل ولا يندم. نحنُ استولى علينا الخوف من فقد وسيلة الحياة والموت، وهم يصنعون الموت لنا والحياة لهم. بلادنا استقر رأيها للسلام المهين والمواطن عندها وسيلة إثراء وضريبة فما الداعي لاستنهاض الشعور والفعل لمقاومة عدو لم تعد بلادنا تعتبره عدواً وماذا بها لو لم يكن لدينا مقومات الحروب التي تحمي المدنيين و تمكنهم من البقاء فنحن لا نحارب؟ السلام أضمن. هكذا حكم الخوف علينا بالقبول بالذلة لكي نعيش فنحن نعيش لنأكل ونمرح. القلةُ من المقاومين في غزة تحديداً وفي جنوب لبنان هم الاستثناء وأهليهم ومجتمعهم الملتف حولهم ومعهم هم من النوادر.
ثم السبب هو “الأنا” العربية التي تختار انشغالها بذاتها وسلامتها وتخترع مبدأ التناوش عن بُعدٍ مع التأكد أن حرب العدو على الأخ ليست حربها. كأن النتن لم يقل أنه سيغير المنطقة وها هو يفعلها. ما هي وثيقة التأمين الحكومية العربية ضد الغزو الصهيوني؟ كلٌّ يقول “أنا” ومن بعدي الطوفان. “أنا” التطبيع والعلاقات الأبراهيمية والاستثمار بالمليارات وفتح البلاد للقواعد العسكرية وتسهيل كل فاحشة وتقفيل كل نوافذ الوطنية إلا ما هي “أنا” و “الأنا” تتقلصُ لصورةٍ بإطارٍ ذهبيٍّ.
الخوف و “الأنا” هما وصفةَ الأوطان المتبلدة والشعوب المستكينة الذليلة. فيا حُلْوَ الموت شهادةً يأتي لينجيهم من أوطانهم البليدة. نحسدهم ونغبطهم والله.
*كاتب اردني
